كنت أعمل مستشاراً غير متفرغ في البدايات الأولى لتأسيس هذه الصحيفة، ويومها حجم الجهد والعمل وأرتال الورق الهائلة التي كان يحتاجها بناء مركز للمعلومات بهذه المؤسسة. يومها لم يكن فخامة السيد الرئيس "جوجل" على الخط ليختصر كل هذا الجهد وكل تلك الجيوش من الموارد البشرية. ومع هذا الفتح الإلكتروني الذي غيّر كل معالم تاريخ البحث والدراسات الإنسانية لم أقرأ دراسة واحدة أو مقالاً عن مساوئ ومثالب "جوجل". كتبت هذه البارحة باللغتين العربية والإنجليزية على "جسد" فخامة السيد الرئيس فلم يجبني بحرف واحد. أعظم مساوئ وسلبيات جوجل أنه ألغى فينا جميعاً آلية التحليل والاستنباط وتتبع درج السلم للحصول على المعلومة، أصبح جوجل هو سماحة المفتي الذي نكتب إليه سؤالنا في بضع كلمات ولكنه لا يجبرنا على قراءة تاريخ المسألة الفقهية ولا قواعد بنائها ما بين علم الفقه وأصوله.
صار جوجل هو الطبيب الاستشاري الذي يصف لنا الدواء بكل ما لذلك من خطورة قصوى لأن المعلومة النهائية الجاهزة تلغي فينا تحليل التاريخ السريري للمرض.
باختصار شديد: "جوجل" يلغي فينا جميعاً نعمة إعمال العقل. هو للتشبيه، مثل الآلة الحاسبة في جوالات ملايين الطلاب التي تعطيهم مباشرة حاصل ضرب رقمين ولكنهم لا تعلمهم الأساس الرياضي لفلسفة التراكم الرقمي ولا مربعاته ومكعباته. محرك جوجل، مثالاً، يقول لك مباشرة إن رئيس وزراء بريطانيا "محافظ" تقليدي ولكن المعلومة الجوجلية الجاهزة لن تعطيك أبداً أن هذا الحزب المحافظ متحالف مع النقيض من القوى الاجتماعية اليسارية وهي معلومة ستقودك إلى فهم طبيعة تحولات المجتمع الأوروبي. ستكتشف في هذا معلومات هائلة لن تصل إليها إلا بالطرق البحثية التقليدية.
الخلاصة: إن "جوجل" ألغى فينا جميعاً رحلة البحث المكتملة من الصفر إلى كمال البحث. للمثال، كنت طالب دكتوراه قبل "جوجل"، وأحمد الله - سبحانه - على هذا لأن الطرق التقليدية كانت تجبرني على قراءة عشرة كتب قبل الوصول لما أريده في الكتاب الحادي عشر. اليوم هو يختصر كل تلك الرحلة بضغطة سؤال واحد لكنه وللأسف مسح من عقلي مساحات بقيت معطلة للإعمال ولذة مشوار المعلومة.