عندما يعن لك أن تتبين ردة فعل المجتمع على مستوى الممارسة، تجاه (توهان) أبنائه، فإنك لن تفاجأ بجديد حين يواصل هذا المجتمع الإعلان، في كلّ لحظة، عن تبرئه الكامل من الشباب وطيشهم، وفي ذات الوقت يمشي في جنازاتهم ويسكب عليهم الدموع الممزوجة باللعنات سراً، على الرغم من أنه (متورط) في عملية قتلهم. أما علماء الاجتماع فهم إن حضروا، فإن ذلك يتم على (استحياء) وتنظير مكرر يرمي إلى التأكيد على الدور الكبير الذي يجب أن يقوم به المنزل، وربّا الأسرة تحديدا، إذ هما المنبع والأصل ولا بد أن تكون رعايتهما للأبناء وفق أسس تربوية حديثة مرنة.. لا تغفل الظروف المحيطة ولا تتجاهل الواقع المعاش ومستجداته، ساعية إلى الانعتاق من أسر (السلبية) و(الوصاية) المتعصبتين! سيسمع رب البيت هذا الكلام ويعجب به إذا كان من نوعية المتعلمين ولو تعليما يسيرا، وسيشعر بأن هؤلاء المتخصصين في الشأن الاجتماعي والشأن النفسي لا ينطقون من فراغ، وبالتالي سيفكر بأن تعامله مع رعيته لم يكن دقيقا أو سليما.. مثل هذا الأب سيذهب إلى المسجد في يوم جمعة مثلاً وسيخطب الخطيب في موضوع يتعلق بحالة تخص قومه، وسينتقي مثل غيره من القرآن والسنة ما يؤيد طرحه (القاصف) للشباب والحكم عليهم بالفساد وتشبيه حياتهم بحياة الحيوانات، محملاً الآباء أو أولياء أمورهم عموماً المسؤولية في ضياعهم ولهوهم وسهرهم وعبثهم، وأنهم فاشلون "صائعون" (داشرون) لا يصلحون أبداً.. وفي داخل هذا اللوم يدس الخطيب تحريضا واستعداء عليهم.. وكذلك يفعل إن خطب عن (البنات) وضرورة متابعتهن ومعرفة بمن يختلطن في المدارس وأماكن العمل ومراكز التدريب، محذراً من.. ومن.. إلخ. من المؤكد أن غرض الخطيب هنا نبيل ومن باب التذكير قال ما قال، لكن هل عرف أي قوم يخاطب؟ وأي مستوى من مستويات التفكير ينتمي له مستمعوه؟! هل يدري أنه (يفتح) على بعض الآباء والبيوت مشاكل لم تكن في الحسبان، وبدل أن يسهم الأب في طرد الشياطين عن بيته، فإنها تتوغل وتتعمق أكثر، إذ تبدأ (الوساوس) و(النواغز) حركتها في قلبه وعقله، ومن هنا يكون تصرفه عكسياً وغير إيجابي، مهما كانت دوافعه ونياته.

هل لاحظتم كيف يتناقض خطاب الدين والعلم هنا في المثالين؟ أو هكذا يصبحان متنافرين بالنسبة لمتلقيهما، على الرغم من أنهما في الأساس لا يتضادان، بل يسيران مع بعضهما بعضا جنبا إلى جنب ويفيدان من بعضهما بعضا لما هو في خير المجموع. إذ لا يكفي أن تكون النوايا حسنة لأن حسنها أو سلامتها قد يتلاشى أو يقصى بعيداً إذا عُبر عنها بأسلوب لا هو من (الدين) ولا هو من (العلم) في شيء، حتى وإن لبس لباسهما. قد تقولون ما دخل هذا بعدم وجود فرص عمل للشباب؟ وأقول إنني أتحدث عن نمط تفكير يجب أن يتغير ليتغير كل شيء. نحن كمجتمع (مرضى) بكل أسف، نعاني أشد أنواع الفصام وأخطرها على الإطلاق، وإلا لما تكلمنا كثيراً عن (التوازن) كإكسير لتطورنا وتجنيبنا الكثير من المشاكل، التوازن في شتى مناحي حياتنا، صغيرها وكبيرها، العادي منها والمهم.. نقول عنه دائماً إنه جسرنا البسيط إلى غد أفضل ومع ذلك لا نطبق (التوازن) كفعل في واقعنا، فنتعصب لما هو في مصلحتنا الشخصية وننسى غيرنا، كلٌّ منا يرفع (خطابا) هو الحق وهو الحقيقة، وما سواه دجل وباطل وأساطير الأولين، أو أنه تفسخ وتحلل وانبهار بالآخر، فيما الأمر، بكل بساطة، أن خطابي وخطابك (لا يلغيان) بعضهما بعضا، بل يكمل هذا ذاك وذاك يغني هذا...

باسم الدين ندمر شبابنا ونقضي عليهم، وكأنهم ليسوا بشرا مثلنا، لهم قلوب ولهم أحاسيس ومشاعر، ولهم (نفوس) لو (اعتلت) اعتل معها المستقبل كله بـ(داء) الاهتزاز الذي لا يؤدي سوى إلى السقوط في الدرك الأسفل من الضياع والموت.