اتخذ رئيس مصر الجديد وقائد جيشها السابق، عبدالفتاح السيسي، خطوات كبيرة للانضمام إلى مجموعة الاقتصاديات الناشئة التي برزت إلى حيز الوجود في قمة بلدان "بريكس" -المشتملة على البرازيل وروسيا والهند الصين وجنوب أفريقيا- في البرازيل. فبعد زيارته للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي أوائل أغسطس الحالي، وعقب لقائه بوزير الخارجية الصيني وانج يي في القاهرة، أعلن الرئيس السيسي في الخامس من أغسطس الحالي، عن شق "قناة سويس جديدة" يُمكنها أن توفر في نهاية المطاف 1.5 مليون فرصة عمل، وتفتح الأبواب أمام مليارات الدولارات في التبادل التجاري البحري، جنباً إلى جنب مع عقود مجموعة بريكس التي تمثل أكثر من ثلث سكان العالم.
ويُعد التوجه الاقتصادي الذي اتخذه الرئيس السيسي فرصة لتحقيق الرخاء الذي تستحقه مصر، التي يحلو للبعض أن يسميها "مهد الحضارات"، نظرا لأهمية المياه الواهبة للحياة من نهر النيل. ولكن بعد قرون من الاستعمار، التي تلتها الحرب الباردة، ومن ثم الشروط والمتطلبات القاسية التي يفرضها صندوق النقد الدولي IMF على القروض، تدنت مستويات المعيشة في مصر إلى أقل بكثير مما كان عليه الحال. وفي الواقع، كانت تلك المصاعب الاقتصادية والفقر المدقع السبب الكامن وراء "ثورتين"، الأولى في يناير- فبراير 2011 التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، والثانية في 30 يونيو 2013 التي أطاحت بمحمد مرسي المدعوم من جماعة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من شعبية الرئيس السيسي الواسعة، يخشى أنصاره من إمكانية تهديد نظامه بثورة شعبية، ما لم يستجب للتطلعات الاقتصادية للمواطنين.
ولكن القروض الطارئة من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة التي بلغت عشرات المليارات من الدولارات في عام 2013، حالت دون تأثير ضغوط صندوق النقد الدولي التي كادت أن تؤدي إلى كارثة بعد الإطاحة بمرسي. فعلى سبيل المثال، خُفِّض دعم الخبز والوقود وفقا لمتطلبات صندوق النقد الدولي المدعومة من إدارة أوباما، وكان من الممكن أن تكون هذه الضغوط حكما بالإعدام لفقراء مصر، وعقوبة إعدام محتمل لأي نظام يحاول تنفيذها. ولكن بمساعدة دول الخليج الشقيقة، استطاعت مصر أن تتجنب كارثة مطالب صندوق النقد الدولي، ولو بصفة موقتة. فبدون تنمية اقتصادية داخلية مستدامة، فإن مصر ستلجأ مرة أخرى لتطرق أبواب الممولين الدوليين، مما يعمق ديونها.
ولكن مع إعلان الرئيس السيسي عن بناء" قناة سويس جديدة" في غضون الـ12 شهراً المقبلة، ودبلوماسيته مع روسيا والصين وبعض دول البريكس الأخرى، فسيكون لمصر فرصة لتحقيق الإمكانات الوطنية السيادية، مما يجعلها زعيمة الاقتصاد في أفريقيا وربما في الشرق الأوسط بأسره. يُشار إلى أنه في أقل من أسبوعين من الإعلان عن مشروع القناة، تم بالفعل حفر 8 ملايين متر مكعب من المرحلة الأولى للمشروع. وقد أعلن بيان صادر من القوات المسلحة المصرية التي تقوم بتكليف من الرئيس السيسي بالإشراف على إنشاء القناة؛ أن "وتيرة الحفر ستزداد". ومن أجل تعبئة موارد مصر بأكملها، أعلنت وزارة القوى العاملة والهجرة تشكيل لجنة تشمل 11 وزارة و9 إدارات حكومية أخرى لهذه التعبئة. وفي لقاء مع قناة "سي إن بي سي" العربية في 17 أغسطس الحالي، قال المهندس أشرف دويدار، أحد الأعضاء المؤسسين للجبهة الشعبية لمشروع محور قناة السويس، إن أكثر من 1.5 مليون فرصة عمل ستنجم عن هذا المشروع.
أما التدابير التي أعلن عنها في وسائل الإعلام المصرية والدولية فقد تمت بصورة مذهلة. كما أن التوسع الذي سيسمح بحركة مرور السفن في الاتجاهين في وقت واحد، سيضاعف حركتها في أقل من عقد من الزمان. وسيشمل التوسع أيضاً بناء أربعة موانئ جديدة ومجمع علمي جديد في الإسماعيلية. وحسب تقديرات تقرير حكومي مصري، فإن القناة ستحقق إيرادات، بعد اكتمالها، تبلغ نحو 13 مليار دولار سنوياً، أي أكثر من ضعف الإيرادات الحالية التي تبلغ 5 مليارات دولار سنوياً. وتجدر الإشارة إلى أنه تم الآن توظيف 5007 عمال، وبنهاية سبتمبر المقبل، سيكون هناك 15 ألف شخص على رأس العمل. وبما أن مصر، التي لديها أكبر تجمعات من المهندسين المتمرسين، فإن المشروع سيكون مليئاً بالإنجازات الواعدة المذهلة.
وبالطبع، لا يمكن لأي مشروع من هذا القبيل أن يكتمل دون تعاون دولي. فخلال زيارته إلى القاهرة في أوائل أغسطس الحالي، سلم وزير الخارجية الصيني وانج يى رسالة من الرئيس الصيني شي جين بينج إلى الرئيس السيسي، أشاد فيها بمصر ووصفها بأنها "دولة رائدة في أفريقيا وفي العالمين العربي والإسلامي. وأنها دولة تتمتع بصداقة تقليدية مع الصين". كما تضمنت الرسالة دعوة عامة لمصر إلى الاندماج في رؤية الرئيس الصيني التي تدعو إلى "حزام واحد وطريق واحد"، التي تشير إلى "طريق الحرير البحري في القرن الـ21"، وكذلك "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير" الذي روَّج له الرئيس شي جين ينج في جولته العام الماضي في بلدان أوراسيا. وحث وزير الخارجية الصيني وانج يي، بصفة خاصة، على التعاون الثنائي بين الجانبين في بناء منطقة السويس للتعاون الاقتصادي.
ومن ناحية أخرى، ركز اجتماع السيسي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضاً على التعاون الاقتصادي والعلمي والاستراتيجي. وفي بيان رسمي صادر من بوتين عقب المحادثات، قال: "إن الصداقة التقليدية بين بلدينا -روسيا ومصر- تعود إلى زمن الحرب العالمية الثانية. ففي خمسينات وستينات القرن الـ20، ساعد آلاف الخبراء مصر في بناء المعامل والمصانع، لبناء سد أسوان.. والآن هناك العديد من أولئك الذين يشكلون النخبة السياسية والأكاديمية والثقافية لمصر تلقوا تعليمهم في جامعاتنا. وهذا في حد ذاته يُعد أساساً جيداً لتطوير العلاقات الشاملة في المرحلة الراهنة".
مصر هي بالفعل شريك تجاري رئيس مع روسيا والصين اللتين تعدان أكبر مستخدمي العالم لقناة السويس. وفي المقابل تقوم روسيا بتزويد مصر بنحو 40% من احتياجاتها من القمح. ومع الحظر المفروض على روسيا الذي يمنعها من استيراد الفواكه والخضروات من دول الاتحاد الأوروبي -بسبب عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا إزاء سياستها غير الشرعية تجاه أوكرانيا- ستزيد روسيا من واردات الفواكه والخضروات الطازجة من مصر، وسيتم إنشاء مركز لوجستي على البحر الأسود لمناولة هذه الواردات. كما ناقش الرئيسان تعاون روسيا في البرامج المصرية للطاقة النووية والغاز وتطوير الطاقة المائية.
أما في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فهناك من يرى صعود "البريكس" بمثابة "حرب باردة" جديدة، لكن مثل هذه النظرة الضيقة تُعد "لعبة محصلتها صفر"، ولن تؤدي إلا إلى مزيد من الفقر وعدم الاستقرار والتطرف. إن طريق التجارة والتنمية، ممثلاً في الخطوات الأولى التي تتخذها مصر الآن، يشير إلى خروجها المتزن من أزمتها الاقتصادية الحالية.