تُحاسب نفسك، ترهقك الجودة والانتقاء في كل شيء؛ الوقت، البشر، المقتنيات، أين تذهب، كيف تعيش.. إلخ!
تقبّل الأمر، نعم، لقد منحتك الحياة شَغَف ملاحقة المعنى، لكنها أيضا ورّطتك في قلة الرضا، رمت بك في المضاضة والواقع. آسف! يحدث أن تتأمل أحدا لا يكلّ عن الأمل، وتقول لا بد أنه وقبل أن ينضج أثر الإنسان، تكون مواجع روحه وتجربتها قد بدأت قبلها بدهر. حين تقرأ مقولة أو قصةً أو قصيدة، أو حين تسمع أغنية أو أحدا يحكيك حكاية.. صوّب حسّك جيدا، تأمل الأثر، فإذا لم تجد الجحيم والتجربة فأنت لم ترها ولم تسمع، ربما لم تفهم. تفكر عميقا في هذا الطيش والخفة التي تملأ العالم، وتقول في نفسك يا له من زمن موحش ووحشي ومحبط! تفكّر أنه الزمن الذي تصطدم خطاباتُ الظلام والاستبداد والتجهيل فيه بنتائجها، وتعرف أنك بقدر ما تتفادى الوحل في زمنٍ كهذا، بقدر ما تحمي سلامة نفسك وصوتك ويدك.
تتساءل كيف صرنا لهذا؟! خذ مثلا بسيطا؛ كانت الدولة قد أرسلت المبتعثين إلى أقاصي الأرض منذ زمن، كنا قبل حادثة الحرم، على وشك أن ننتقل إلى فكرةٍ أخرى عن أنفسنا وعن العالم بعودة هؤلاء المبتعثين، ثم وقعت البلاد كلها في الورطة، وزُجّ بنا للصفر. أحد العائدين في تلك الفترة الدكتور ناصر الجهني، أنجز الدكتوراه في اللغويات، من جامعة ميتشجن، إحدى أكبر الجامعات في العالم. كان أحد الذين وافقت عودتهم مباشرة بالشهادات العليا للسعودية، تلك السنوات الأولى التي أطلق فيها العنان لتنظيمات الجماعات الإسلامية (الصحوة). استولت خطاباتها على المجتمع في وقت قياسي، وبدلا من أن يكون المفكرون والأدباء والعائدون بالمعرفة والعلم لصالح البلد ونهضته وتطويره، هم صانعوا التطور الاجتماعي السوي والصحي، صاروا فجأة هم هدف الإقصاء والإيذاء في علمهم وحلمهم وفي رزقهم وأشخاصهم! تتعب وأنت تحصي الأسماء الدعوية التي سمح لها بصياغة فكرة وسلوك الناس منذ خمسة وثلاثين عاما، وهم حتى اليوم سبب تعطيله وأزماته ومخاوفه، وبعضهم اعترف بما فعل وتراجع، فيما لن تتذكر إلا أسماء قليلة، تحتفظ بها ذاكرة المجتمع بريبة، لمن تجرأ وخالفهم علنا، ونالهم ما نالهم. من نلوم!
أضع الدكتور ناصر الجهني مثالا للعديد من جيله، الذين حرمتنا تلك اللوثة (الصحوة) أن نسمع مثابرتهم، ولنتساءل فقط لو أن هؤلاء هم من أريد لرؤاهم أن تبني وعي المجتمع، أكنا سنفقد من أبنائنا الآلاف والآلاف في أفغانستان والشيشان وسورية والعراق واليمن.. إلخ، أكنا اليوم سنقلق من الإخوان وداعش وسواهم! لله المشتكى!