*عبدالله السفر
لحظة تلقي عنوان الإصدار الثاني للشاعر نجيب مبارك "على مرأى من العميان" (منشورات مرسم، الرباط ـ 2013) ينتبه القارئ مباشرة إلى المفارقة التي يحملها مثل هذا التركيب بالمقابلة بين الرؤية والعمى، بانتفاء الثاني عمليا ورفع حاجزه نحو الإبصار والتحقق من المشهد عينيا. مفارقة مجازية تجعل الاستحالة قابلة للخرق والعبور، وفي وضح الاستعمال والتطويع. وربما يحيل هذا العنوان إلى المخيلة النافرة التي يتميز بها الشاعر في الطلاقة والتجاوز والسيولة والتداعي الحر؛ صور ومشاهد لا تقف عند الحدود وصلابتها وما تفرضه النظرة العقلانية من امتثال للواقع في شروطه الخارجية التي لا تقبل التفريط فيها والقفز عليها. تعلو مخيلة الشاعر وتثب؛ تخرق وتجاور وتجانس. هي حالة من السيولة تتحول معها الصورة إلى لقطة إلى مشهد عامر بالحركة التي يتآزر فيها الوصف المنزاح في طبقات لونية من الساخن والبارد والأضداد، وبانعكاس تبرز من خلاله العوالم الداخلية في حركتها المتقاطبة أيضا:
"تصيح
وتتبع لون يديك:
نار
في زرقتها
ترصد ألما
في ضحكة ريح
تصعد من غسق
إلى الرئتين".
"ستجتاحه ظلال بلا غرائز
في أي لحظة ويختلط الفحم بالفانيلا
أو بقطرة دم على صحن فنجان".
المشهدية حاضرة في كتابة نجيب مبارك؛ الوعاء الذي يحمل حالاته يتعهده باشتغال فني يقطع مع المباشرة ومجرد الإثبات والتدوين في معادلات لفظية لا ترقى إلى الاكتناه والسبْر. اليد لا تكتب بقدر ما ترسم وتسيل الرسم على شاشة ضوئية مكتنزة بالمتعة الفنية الخالصة وفي الوقت نفسه حبلى بالدلالات تتكشف وئيدا، حيث ما تصنعه العين بتؤدة وفي تبئير متصاعد؛ ينحل في الوجدان أثرا جماليا يظل يتردد شأن نشوة تلتصق بالجلد وتمكث زمنا طويلا: "وحين داهمتني غفوة لم أحلم بأي شيء ولم أفزع، وإنما على غير العادة فكرت أن رأسي لا خوف عليه. لقد صار مظلة عاكسة للضوء أو مجرد خوذة متزحلق على الجليد".. "السيوف التي جفت عليها الملوحة، المصروبة من حديد، والتي لم يعد يعرضها أحد على الطريق، تنعم الآن بغفوة المحار على رمال الصدفة، وكلها آذان وفية للموت أو للحياة".
.. مع الصياغة المشهدية يتبدى ملمح يلازم مجموعة من نصوص الكتاب، كسمة مميزة وفنية فارقة، تتركز في الاحتدامية والتوتر، وذلك عائد إلى طريقة بناء النص القائمة على نواة سردية يجري توسيعها تشابكيا تمسك العين والإخبار بمسارها وفي تحولات مشدودة بالكثافة وعلى نحو مفاجئ تطفر منه المفارقة والغرابة والدهشة. كما هو الحال في نص "القراصنة"؛ هؤلاء الذين يحضرون في العنوان ويغيبون داخل النص غير أن ـ هذا الغياب ـ يعالجه حضور الأحفاد في حركة طقوسية تصلهم وصلا اعتذاريا بالمكان الجامع، حيث الماء وحيث شغب العمل في صداه المتوهم والمتسارع إلى الانحسار: "في الليل، كان وقع أقدامهم يشبه ردم جبل فوق العين الوحيدة التي تبصر. وفي الصباح، كانوا ينهضون من الأسرة مرعوبين، يمزقون الرايات بأسنانهم ليدفعوا رؤسهم عاليا، كما لو على أمل أن ثمة بقايا سفن، وراء النهر، لن يخسروها".
* كاتب سعودي