السياقات الطائفية تتصاعد ملتهبة.. المثقفون يبدون أقصر يدا وأقل حيلة وأضعف حلقة في دوائر الموت والنار هذه، كل ما يطرحونه عبارة عن توصيفات وتنظيرات ميتة حول التعايش والقبول والهويات المتعددة والموزاييك الاجتماعي السياسي والإثني، والإدانات الشكلية التي يحاولون إبرازها مجرد "برقع أخلاقي" والغنائيات الوطنية المدرسية العالية الصوت، شيء لرفع العتب وتجاوز الحرج العام فيما يبدو.

لا يحتاج الفهم الوطني والإيمان به إلى مشروع ليطرح، فكرة التشظيات والحروب الأهلية الصامتة والمشتعلة التي تعصف بالمنطقة تلزم على الجميع -والمثقفون في طليعتهم- موقفا واضحا جليا، هكذا يعلمنا التاريخ، الناس والأوطان هم من سيدفعون جنايات الطائفية وأثمانها الشوكية المرة، تركض المنطقة بحماس إلى الاحتراب والاقتتال والتشظي، ينخرط الجميع في المعركة الموعودة التي لن يحسمها أحد لأنها لو كانت ستحسم بهذه الطريقة لحسمت منذ قرون، تتجدد الأوهام وترتفع الرايات في حفلة العدم التي يوظفها السياسي ليدفع ثمنها الناس وتكون مهمة المثقف تبرير أسبابها وإكسابها عباءات منطقية، تصاغرت أحلام المثقف العربي من رؤيته القومية الشاملة المتحررة المنطلقة من واسع الحلم الإنساني بالحرية والمعرفة والانفتاح الكوني نحو العروبة كأفق هائل في بدايات القرن ليتضاءل نحو التخلص من الاستعمار وفكرة الدولة القطرية الحرة المستقلة بعد الحرب العالمية الثانية، ثم لتنكمش أحلامه حتى اختصرها بالتخلص من الأنظمة الدكتاتورية ما بعد حرب الخليج 1991 ليأتي "الربيع العربي" 2011 ليتناقص الحلم بالانعتاق من مجرد دكتاتوريات الأحزاب واليوم في ظل فوضى الحواس وانفلات المبدئية يتموضع المثقف في خنادق الطائفة والهوية ليصبح التحرر من هيمنتها أمنية بعيدة.

صار المثقف مبررا للمجازر والتطهير العرقي، مشدودا إلى أصولياته وجذوره المؤسسة، موهوما بالجماهير الإلكترونية والتلفزيونية، مسننا في ماكينة الغيبيات ومحركات الوهم البعيد، أما من صمت مختارا تبريرات المراقبة والتأمل وفرز المواقف فأكمل مشاركته بهذا الجنون، أزمة أخلاق حقيقية وامتحانات قيمية نفشل بها جميعا وننكشف بوجوهنا الطائفية التي لطالما حاولنا إخفاءها دهرا.