منذ ثاني أيام "عيد الفطر" وسكان مدينة الرياض يعيشون حدثاً ثقافياً مختلفاً، فالمعرض العلمي الذي تنظمه شركة "أرامكو" سحب البساط من الكثير من فعاليات العيد الأخرى، لقد استطاع معرض "إثراء المعرفة" –المؤقت- أن يتحول إلى وجهة جديدة لسكان وزوار العاصمة، بشكل لم يكن أكثر المتفائلين يتوقعونه.

قبل أيام حظيت وعائلتي الصغيرة بفرصة الاستمتاع بأجنحة المعرض المتنوعة، وللحقيقة قضيت ساعات متتالية دون أن أحس بلحظة ملل في هذا الكرنفال الثقافي الرائع، وزاد من بهجتي ازدحام المعرض بالآلاف من الزائرين والزائرات، من مختلف الأعمار والخلفيات الثقافية. كان الجميع نهماً للاستزادة من صنوف المعرفة التي يقدمها كل جناح في المعرض، فالفكرة الأساسية لهذا التجمع كانت العمل على إثراء معرفة الزائر، وأخذه إلى آفاق أوسع وأكثر رحابة، وجعله يفكر ويستكشف الجديد، ومن ثم يعمل هو على اكتشاف أشياء أخرى تهمه.

والحقيقة أن فكرة هذه المعارض العلمية أو المراكز "التي تعمل على تثقيف الزائر عن طريق التعلّم والتدريب الذاتي، بواسطة معروضات تفاعلية تشجّع الزائر على التجربة والاكتشاف"؛ ليست بدعة جديدة، ولكنها ممارسة عالمية منتشرة في أغلب دول العالم المتقدم، وقد بدأت قبل أكثر من مئة وخمسة عشرين عاماً، بالمركز العلمي "أورانيا" في برلين بألمانيا عام 1888م، ثم قامت أكاديمية "سانت لويس" بإنشاء متحف "سانت لويس" للعلوم والتاريخ الطبيعي عام 1959م، ولكن المراكز العلمية بشكلها المعاصر تعتبر نتاج عقد الستينات، حينما أنشئت مجموعة ضخمة من المتاحف والمراكز العلمية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبعض دول أوروبا.

والرائع في الأمر أن "أرامكو" السعودية كانت من أوائل الجهات التي أسست مركزاً علمياً تفاعلياً ليس في المملكة فقط، بل في منطقة الخليج العربي، وذلك عام 1987م، هذا المركز الذي لا أزال أتذكر دهشتي الكبيرة حينما زرته صغيراً، وتعلمّت الكثير عن صناعة النفط في العالم والمملكة، وعن تاريخ شركة "أرمكو" السعودية، وقصة برميل النفط من فوهة البئر حتى وصوله إلى المستهلك النهائي، هذا المعرض الفريد من نوعه تشير الإحصاءات إلى أنه يستقبل كل عام ما يزيد على 50 ألف طالبة وطالب!

لكن فكرة المراكز العلمية التفاعلية لم تنتشر في المملكة بالشكل المأمول، فمركز جدة للعلوم والتكنولوجيا لم يستطع أن يصمد أكثر من خمسة عشر عاماً، فأغلق أبوابه قبل أعوام قليلة، ثم أهديت مقتنياته العتيقة بعد أن أصابها الصدأ إلى بعض الجهات العلمية في المملكة، بعد أن كان قبلة لطلاب وطالبات المنطقة الغربية، ومعلماً حضارياً يجذب زوار عروس البحر الأحمر، ولا أزال أتذكر زيارتي له مع أخي "سعود"، حينما قضينا ساعات طويلة نصعد أدواره المتعددة، حتى وصلنا إلى القبة السماوية، التي كانت تبث عروضاً مبهرة عن عوالم البحار ومغامرات الفضاء، وللأسف لا أعرف سبب إقفال المركز، هل هو بسبب توقف الدعم المالي؟ أم لقلة الزوار؟ كل ما أعرفه أن هذا المعلم المميز توقف عن النبض منذ سنوات دون أن يهتم أحدٌ لذلك.

هنا في الرياض توجد واحة الأمير سلمان للعلوم، وكذلك المعرض المتميز "مشكاة"، والذي أسسته مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة، ويعد قطعة فنية فريدة من نوعها، وجهداً يستحق الإشادة. رغم صغر حجمه، إلا أنك بعد أن تتجول في أرجائه وتستمتع بألعابه وأنشطته المختلفة؛ تخرج وقد استوعبت أهمية الطاقة النظيفة والمتجددة، وأدركت وسائل الحصول عليها، وهو الهدف الأساسي لهذا المعرض.

والحقيقة أننا بحاجة إلى مثل هذه المعارض العلمية المتخصصة، من كافة الجهات الحكومية ذات العلاقة أو الجمعيات العلمية أو المهنية، فالهدف ليس مجرد بناء مركز علمي مملوء بالأجهزة والشاشات، بل الهدف تحقيق توعية علمية متسدامة، لا تتوقف بمجرد توقف البرامج التوعوية نفسها أو توقف الدعم المالي لها، وهو ما يحدث –للأسف- في الكثير من البرامج والفعاليات التوعوية، التي لا تكاد تصل إلى معظم المستهدفين حتى تتوقف وتتلاشى، وتبدأ بعدها حملات أخرى من الصفر، الأمر الآخر هو الاستفادة من نجاح هذه المعارض المبهرة في إيصال المادة العلمية بكل سهولة للمتلقي، ذلك لأن المتلقي يكون مشاركاً حقيقياً في دورة الحصول على المعلومة. بل إن وجود هذه المراكز العلمية وانتشارها عبر المملكة، سوف يحقق نشاطاً سياحياً إضافياً لكل مدينة أو بلدة ينشأ فيها مثل هذه المراكز، وبالتالي فإن وجود تلك المراكز مجد من الناحية الاقتصادية، سواء من باب توفير مصاريف التوعوية المتواصلة، أو من باب إضافة موقع جذب سياحي جديد، والأهم من ذلك هو توفير فرصة قضاء وقت فراغ الشباب أو الفتيات في شيء ينفع ويبهج.

أو لسنا بحاجة في مدننا السعودية إلى متحف علمي أو مركز عن تطور صناعة الطيران، وآخر للزراعة، وثالث لتطور تقنيات الاتصال، وهلم جرا لكافة مناحي الحياة، فقط كل ما يحتاجه الأمر هو أن نهتم أكثر، ونفكر بعمق أكبر، ونحن قادرون على إنجاز تلك المراكز من حيث ما انتهى إليه الآخرون.