إن للتراث والموروث الشعبي انعكاسا في ذواتنا كما أن ذواتنا حصيلة مفرداته، قبلنا ذلك أم رفضناه! وللرقصات الشعبية في تراثنا أهمية كبيرة لا يزال الكثيرون لا يدركون كنهها!
فالرقصات الشعبية متنوعة حسب المنطقة والمكان، وحسب إيقاع الشخصية وإيقاع المكان وطبيعته. فهناك العرضة النجدية، ورقصة الشامية، الزحفة، والخطوة، ورقصة الدمة العسيرية، والهوبلة والعرضة في بلاد قحطان، وهي نوع من أنواع العرضات، وسميت بالعرضة لأنها نوع من العرض أو الاستعراض للقوة وللسلاح وللمجد وللشرف، وللذود عن الحمى، ولتذكير العدو بما له من شجاعة وإقدام؛ فهي نوع من الزهو، وليست لهز الاكتاف والأطراف كما يفهم البعض عما يسمى بالرقص في مفهومه الضيق! وعلى سبيل المثال عرضة الدمة والتي لها وظيفة ورسالة تؤديها كعمل فني غاية في الأهمية. فهي رقصة الحرب بطبيعة الحال.
فالعرضة القحطانية، تؤدى في المناسبات، الزواج، "البدوَة" وهي زيارة العروس لأول مرة، الأعياد والختان. حيث يأتي المدعوون -وهم قبيلة على قبيلة أخرى- من بعيد راكبين سبل مواصلاتهم، إن كانت إبلا أو خيلا أو سيارات في العهد القريب، ثم ينزلون من رواحلهم، بل ينيخونها إن كانت إبلاً، أو يوقفونها إن كانت سيارات بعيداً عن القرية المراد زيارتها، ثم يصطفون صفاً واحداً على شكل خط مستقيم، معهم شاعرهم، ويأتون راقصين تجاه منازل القرية.. وقد تسربلوا بالسلاح، ويطلقون من بنادقهم رصاصهم، مشكلين سحابة من دخان البارود.. في الوقت نفس يكون أهل القرية وهم المضيفون، قد تراصوا في صف واحد، متسربلين أيضاً بالسلاح، غير راقصين، ينتظرون اقتراب الصف الآخر. يرقص أولهم (القادم) على إيقاع الطبول المشاركة، مع غناء وحماس شاعر مرتجل، وعندما يقترب الصفان يظهر المضيف الأول أمام الصف الأول ومقابل الصف الثاني مؤدياً "الترحيبة" في صوت مرتفع لاحناً واضعا أصبعيه في أذنيه أشبه بالمؤذن، قائلاً "أرحبوا يا ضيفان مرحباً بكم" وبعد أداء الترحيبة، يقبل الصفان في سلام وتحيات ومصافحة، ثم تتم العرضة في شكل راقص لكلا الطرفين. وشاعرهم المرتجل يذكي نار الحميَّة بما يمن الله عليه من قريحة يتبنى محتواها كل الحضور فيرددون قصائده وهم يرقصون؛ وعادة ما يرتبط هذا الإبداع القولي بالرقص، فتغنى القصيدة تبعا لإيقاعات الرقصة وإيقاعها، ثم ينخرط الجميع في هذه الرقصات كلهم في شكل جماعي يسبقهم شاعرهم المرتجل.
وعلى سبيل المثال يقول الشاعر عبدالله بن مريع القحطاني:
ياسلاماً على ربع يحفظون العهود.. كسابة الناموس من عهد الجدود
عسى لياليكم سعد يتبع سعود.. ياربع دايم لها في الفن ساس
وعادة ما تبدأ القصيدة بالسلام، وذلك لأن المرسل هم جماعة الضيوف بشاعرهم، وتعتبر القصيدة ذات مغزى ولها أغراض يفهمها الجميع ويدركون مناحيها بدون عناء أو تفكير. وغالبا ما تكون القصائد منوط بها تلك القبيلة المضيفة تخصها وقصدها بمن فيها من جماعة وأهل. وعلى سبيل المثال قدوم الضيوف في حفل زفاف على قبائل آل موسى، وهم من أعرق قبائل منطقة الجنوب. فيتقدم الشاعر عبدالله بن مريع صفوفه ويقول:
سلام على الديرة ومن يحكم بلادها.. وعلى آل موسى يوم رب العرش زادها
واللي سكن فيها من أرض الشام وألمعي
تر لابتي قحطان واللازم لافي بنا
أميرنا خالد ومن يسكن بلادنا
من صلب فيصل ويا سيوف الهند والمعي
فاكسبت هذه القصيدة شاعرها لقب شاعر قحطان بعد امتحان شديد في ارتجال الشعر!
إنه تاريخ نزهو به وتزهو به شعوبنا، وربما لا يعلم البعض قيمة هذا التاريخ في حياة الشعوب لجهله بفلسفة الحضارة وما يتركه التاريخ على جدار الزمن. أذكر ونحن طلاب علم كيف أننا نرجع إلى رقصات العصور البدائية، لكي نصل إلى إيقاع العصر نفسه، وإلى إيقاع الشخصية ثم نستخرج انعكاس البيئة على تكوين الشخصية من خلال الإيقاع ذاته على التكوين النفسي، فنخرج بنتائج عديدة عن تلك العصور ومنها تكوينها الجيولوجي من خلال التكوين الأنثربولوجي.
إنها مأساة كبيرة أصابتني بصدمة أكبر حينما وجدت على شبكات التواصل الاجتماعي نشر مقاطع لرقصة الدمة ثم تبادل النكات والسخرية والتعليقات البلهاء على هذا الإرث الكبير، ولا يعلم هؤلاء أنهم على شبكات عالمية تنتشر في الشرق وفي الغرب وهم يسخرون من رجالات قبائلهم ومن تاريخهم! فلم نجد من يدافع في هذا الهوس سوى رجل محترم يعلم ما هو تاريخه وما هو تراثه والذي يرمز لنفسه بـ"يزيد بن عبد مناف" فيقول: "أرجو احترام القبائل التي هذه الدمة موروث لها ولا يلغون هيبتها في غزل ولو كان عفيف أنها هي دمة حرب لقبائل عسير.. أرجو ألا تكون ممن يركضون خلف هذه الدبلجات الممقوتة والتي لا تثير إلا النعرات الممقوتة ثم إن هذا الرجل الذي يلعب في وسط الصف من الرجال القلائل شهامة وأدبا واحتراما".
هل إلى هذا الحد يصل بنا الإنكار لحضارتنا ولرموزنا الأدبية والفنية والفكرية؟! فماذا بقي لنا إذا؟ وربما يعجب هؤلاء برقصة الروك وغيرها. نوع من الإنكار والاستنكار والغربة والاغتراب، وانعكاس لما تركته فينا فلسفة الحداثة وما بعد الحداثة وخاصة وما تسمى بـ(الفنون الحداثية وما بعد الحداثية) والتي أنتجتها (التفكيكية) برائديها جاك دريدا وفوكو!
لسنا مع إنكار كل ما هو حديث بل نتقبله بسعة صدر ونقد وتحليل، وإنما نحن ضد محو الهوية وإنكار التاريخ والسخرية من التراث والموروث، لأنه في نهاية المطاف تكوين لشخصيتنا بجميع مفرداته الفكرية والفنية. فهل من مدكر؟!