يبدو من الجدير أن نتذكر أنه في الوقت الذي ينادي فيه الكثير من الفلسطينيين بتحرير التراب "الفلسطيني" من البحر إلى النهر ومن عكا إلى خليج العقبة فإن خريطة فلسطين هذه ليست سوى خريطة لأرض فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني بدءا من عام 1920 وحتى عام 1948. إنها ظاهرة لافتة أن تكون خريطة دولة فلسطين التي تشكل الوعي القومي الفلسطيني الراهن، وآماله وطموحاته ومشاعره ومصدر إلهامه، مجرد خريطة مستعمر وليست خريطة طبيعية لوطن اسمه فلسطين. كثير من النساء الفلسطينيات تتدلى على أعناقهن قلادات بخريطة فلسطين وكثير من الرجال يلبسون قمصانا رسمت عليها ذات الخريطة، بينما هي في واقع الأمر مجرد خريطة رسمت في مكتب الاستعمار البريطاني. خريطة الولايات العثمانية مع مطلع القرن الماضي كاشفة إلى حد كبير لأزمة الوعي العربي مع مسألة الدولة وحدودها، وبالتالي مع فكرة الدولة القومية. المساحة الجغرافية التي تشكل اليوم كلا من سورية والأردن ولبنان وفلسطين كانت في واقع الأمر خلال العهد العثماني أجزاء لستة مناطق عثمانية (ولاية حلب، ولاية دمشق، سنجق دير الزور المستقل، ولاية بيروت، متصرفية القدس الشريف، ولاية الحجاز).

ولاية حلب كانت تمتد إلى داخل الأناضول وصولا إلى مدينة ملطية التركية، بينما ولاية دمشق كانت تمتد جنوبا حتى منتصف البحر الميت، وتحدها ولاية الحجاز التي كانت تمتد شمالا إلى منتصف البحر الميت، وتضم منطقة صحراء النقب التي تشكل اليوم جزءا من فلسطين بما في ذلك قرية أم الرشراش (إيلات اليوم). في المقابل كانت ولاية بيروت تمتد من اللاذقية شمالا حتى نابلس جنوبا، وتضم إليها مدن منطقة الجليل وعكا وحيفا ونابلس (الفلسطينية اليوم) وصولا إلى حدود يافا جنوبا (تل أبيب اليوم). متصرفية القدس الشريف (وتتبعها أربعة دوائر: قضاء يافا، قضاء الخليل، قضاء غزة، قضاء بئر السبع) كانت تمثل فقط المنطقة الوسطى مما يعرف بفلسطين اليوم.

خرائط الدول العربية الحالية هي نتاج الفترة الاستعمارية، الخطوط المستقيمة لحدودها إما رسمها الاستعمار أو رسمتها الاتفاقيات البينية في فترة لاحقة. ليس أدل على ذلك من القصة التاريخية الصادمة حول رسم خريطة حدود العراق الحالية والتي قامت بها مستشارة المندوب السامي البريطاني Gertrude Bell حيث تحركت منها المسطرة بالخطأ خلال رسم الحدود فأضافت جزءا من الأراضي للأردن جهة الشرق والذي يبرز بوضوح على الخريطة. أزمة العقل والوعي العربي فيما يتعلق بالحدود ليست في "تقسيم المقسم" بحسب مقولة القوميين العرب الشهيرة، وإنما في غياب مفهوم الدولة القومية من الأساس.

تقترب اليوم الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة لعام 1916، ويحل مع هذه الذكرى عودة النقاش بين المحللين السياسيين عن مآلات هذه الاتفاقية التي رسمت حدود دول المنطقة (تبعا لتقاسم النفوذ بين بريطانيا وفرنسا) وأنها قاربت على نهايتها، خاصة مع اشتداد الأزمة السورية وأحداث العراق الأخيرة من احتلال داعش لمنطقة أكبر من مساحة بريطانيا وفيها عدد سكان يقارب عدد سكان دول الخليج مجتمعة (باستثناء السعودية). ورغم أن حدود الدول العربية الحالية لم ترسمها في واقع الأمر اتفاقية سايكس بيكو وإنما اتفاقية سان ريمو 1920، إلا أن فكرة انهيار النظام الإقليمي الحالي وبالتبعية تفكك دول ما بات يعرف في الوعي العربي بـ"حدود سايكس بيكو" موضوع جدير بالنقاش اليوم، ليس من باب الدفاع عن تلك الحدود أو من باب معارضتها، وإنما من باب النظر في المسببات الرئيسية خلف فشل فكرة الدولة القومية في العالم العربي. ما كشفته التجربة بعد 100 عام من تلك الاتفاقية هو أن المشكلة لا تكمن في "سايكس بيكو" بقدر ما تكمن في فشل مشروع الدولة، فحتى إن كانت الحدود مرسومة باتفاقية أخرى أو أعيد رسمها، فعلى الأغلب ستواجه نفس المصير ما لم نتخلص من جذر المشكلة الرئيس الكامن في كون فكرة الدولة القومية نفسها معطوبة وبحاجة إلى إصلاح.

كتب يزيد صايغ في صحيفة الحياة بتاريخ 26 يونيو الماضي مقالا مهما أشار فيه إلى أن التحدي الرئيس لسايكس بيكو هو تحد محلي وليس خارجيا، فالقوى الدافعة للتقسيم أو تجاوز الحدود نابعة من الداخل كالأكراد أو داعش على سبيل المثال. ومن ثم، فإن ما يواجهه النظام الإقليمي هو تحد ناتج عن ضعف الدولة وفكرتها، والصراع الطائفي هنا ليس سوى أحد تجليات أو عوارض هذا الأمر بينما المسببات تكمن في فشل فكرة الدولة القومية على مدى ما يقرب من 100 عام في أن تتحول إلى كيان يمثل شيئا لشعبه. بحسب صايغ إذًا، فإن تراجع الدولة عن توفير الخدمات العامة، وازدياد الفوارق الاجتماعية نتيجة عقود من فشل السياسات الاقتصادية والتنموية والفساد، وتهميش الدولة لقطاعات من المجتمع سواء على أساس الهوية أو الطائفة، مقابل اتساع القبضة الأمنية، كل ذلك من جملة الأسباب الحقيقية لأن تتحول الدولة (وحدود سايكس بيكو بالتبعية) كما يراها أي مواطن إلى معضلة لا يمكن حلها أو تجاوزها إلا بهدم وتجاوز الحدود، أملا في مستقبل أفضل ضمن شيء آخر يرسم بدلا مما تم رسمه سابقا. لكن ذلك لا يحل شيئا في واقع الأمر، كون فشل الدولة أو نجاحها لا يرتبط بالحدود، ومن ثم فهدم الحدود ليس حلا، وإنما بناء ما داخل الحدود قبل أي شيء، أيا تكون تلك الحدود.

مسألة انهيار سايكس بيكو وتغير النظام الإقليمي ليست بطارئ جديد على المنطقة، فالنظام الإقليمي تعرض لذات التحدي سابقا خلال فترة عبدالناصر في الخمسينات والستينات مع محاولة إعادة رسم الحدود والتأثير على النظام الإقليمي، أو في التسعينات مع غزو صدام حسين الكويت. في تلك المحاولات كان التحرك يأتي من دول قوية وراسخة ضمن النظام الإقليمي، واليوم يعود الأمر من جهة مقابلة من خلال دول ضعيفة تتفكك من الداخل وتؤثر على النظام الإقليمي بضعفها لا بقوتها، وبتحول الدول العربية إلى شبه دول تحتفظ بكيانها وحدودها شكليا من الخارج ولكن ليس للدولة أي سيطرة فعلية أو أنها باتت لا تعبر عن شيء لشعبها كما في سورية والعراق اليوم.

في كل الأحوال لم يكن التهديد لسايكس بيكو من الخارج قدر ما هو من الداخل، حتى إسرائيل ليس لها مصلحة في إعادة رسم الخريطة وإنشاء كيانات أصغر منها، ذلك أن هذا الأمر على العكس من الانطباع الشعبي السائد يزيد من مخاطرها الأمنية. واقع الأمر أن القوى العظمى ليست راغبة في إعادة رسم خريطة المنطقة. هذه النقطة الهامة ضرب لها أستاذ العلوم السياسية الأميركي جريجوري جوس مثالا جيدا في مقاله بصحيفة واشنطن بوست بتاريخ 20 مايو الماضي حينما أشار إلى أن أميركا ظلت تدعم أكراد العراق لمدة 25 سنة ومع ذلك لم تحفزهم على الاستقلال رغم أنهم خلال كل هذه المدة كانوا شبه دولة قائمة، وأنه على الأغلب لن تعترف بهم أميركا حال إعلان استقلالهم.

قضية العرب الكبرى، فلسطين، تختزل أزمتنا الحقيقية مع مسألة سايكس بيكو وتكشفها، في أننا نلجأ إلى إلقاء اللوم على الحدود الخارجية هربا من معضلتنا أنفسنا في الداخل. لا تحرير فلسطين طبقا لخريطة الاستعمار البريطاني ولا حتى إعادة إحياء ولاية بيروت العثمانية من اللاذقية لنابلس سيحل الإشكال العربي الأساس، فنحن بعد ما يقرب من 100 عام من التجربة نجد أن حماس اختزلت القضية في غزة وأن السلطة الفلسطينية رغم كل الدعم المقدم لها فشلت في إدارة بضع كانتونات سلمت لها باتفاقية أوسلو. تغيير الحدود من خطوط مستقيمة إلى خطوط متعرجة على الورق لا يحل شيئا، فالحدود تبنى من الداخل قبل الخارج. ولكننا نظل نتوهم أن الأزمة في الخريطة وأن حملنا لخرائط مغايرة أو سعينا لتغييرها سيغير من واقعنا. نهاية سايكس بيكو لا تبدأ من الورق وإنما من العقل العربي.