نتوافق على جلد الذات ونتبارى في تجريم الربيع العربي، وسيبدو كل منا شخصاً آخر غير ذي علاقة بحماسات الطوفان، ولسوف ينتظم طابور عريض من المهووسين بخطاب الإدانة وتتهيأ الأسباب أمام جيل مختلف يجمع بين الصدمة والنقمة باحثاً عن الجدوى؟ فطالما عجزت الثورات عن إنجاز جنات عدن كالتي لوحت بها مسوخ الثورة فليس من مفازة غير الحصول على تذاكر السفر الفورية إلى الآخرة؟!

هل أقول إن الربيع العربي وفر مناخات جديدة تتغذى على الإحباط وتتبارى هي أيضاً إلى تقويم المزيد من الروافع المستخدمة لدى تيارات التطرف وجماعات الإرهاب؟ وإذا سلمنا جدلا بهذه الفرضية فهل كان الدعم الأميركي لقوى التداين السياسي في مجتمعاتنا ومساندته لها في أحداث العام 2011 ينحو الوجهة ذاتها لا سيما بعد استنفاذ أهدافه من مناخات الحرب الأفغانية وتراجع عائداته من حربي الخليج الأولى والثانية.

لم تعد ثمة حاجة إلى قرائن تثبت التورط الأميركي في تحريك وتوجيه أبرز الأدوات المحلية المؤثرة على مسار الانتفاضات الشعبية في مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية، ومن دواعي الاعتزاز بوعي الشعب المصري ويقظة مؤسساته القومية أنهما أعفيا شعوب الربيع الاصطناعي مشقة البحث عن أدلة تجاه تلك الأدوار الاستعمارية المشبوهة، وألقيا القبض على المتهم المحلي في حالة تلبس كامل، ولهذا فإن التعلق بفقه (المؤامرة) لم يعد هذه المرة لغواً فارغاً ولا حديثاً طوباوياً نتلهى به للإفلات من المسؤولية الذاتية إذ لولا سُلّم الارتهان الداخلي ومشاعيات السيادة الوطنية وغياب الرؤية الاستراتيجية العربية والإسلامية وعدم القدرة على ضبط المسافة بين الخاص والعام.. لولا هذا ما تسيّدت عوامل الاستلاب المعولم ولا سحبت إرادة قطاع جماهيري عريض من موقع النضال المشروع في سبيل الحرية والمساواة وسيادة القانون إلى الانقياد الأعمى خلف جماعات التداين السياسي ومداهنة مشروعها الظلامي الأرعن.

أجد من المبكر إطلاق حكم نهائي على ما أسميناه الربيع العربي، فلا أحداثه –السارة أو الضارة– انتهت، ولا نتائجه استقرت عند ملمح ثابت، غير أن جانبا من تجليات المشهد بات اليوم أفصح تعبيرا عن الحقيقة من الحقيقة ذاتها.

وسواء تأخرت رواية المؤرخ المنصف أو تعجل التاريخ بتسجيل كلمته فإن أدق المتون حديثا وأقومها قيلاً تلك التي تختزل متواليات الربيع بصورتين: أولاهما خروج الطوفان الشعبي الهادر ضاجا بصرخته المدوية لإسقاط الحاكم المستبد، والثانية رؤية الطوفان منكمشاً على هيئة مفرقعات بشرية ملسوعة تتلوى ألماً من طغيان الجماعة أو الحزب بدلاً عن المستبد السابق وحواشيه (المعاد إنتاجها)!

حسناً ها هي الوقائع اليومية تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أجندات الخارج ليست زياً موحدا يتحين السيطرة أو بالأحرى إعادة رسم المعالم على الخارطة بقدر ما ينطوي عليه الرواق الأجنبي من بدائل تضاهي في سوئها بدائل الربيع القائظ.. فإذا أسقط من يده رهان الإحلال والإبدال الجغرافي نهضت سياسات التطويح بآمال الشعوب وتدمير مؤسساتها الدفاعية والإجهاز على ما تبقى لديها من مقومات الوحدة الوطنية والاستقرار الداخلي وما أخطأته الفوضى الخلاقة من اختيارات وتحالفات وصفقات تعوضه الصراعات البينية العربية الإسلامية والعربية العربية. وإذا قصر الإخوان أو عجزوا عن الوفاء بالتزاماتهم للمشروع الخارجي بدول الربيع هبت الدواعش العربية المتدانية تحفها مراهقات المالكي ومحارات الجمهورية الإسلامية وانتفضت حركة الحوثي مهددة متوعدة!

هل كان هذا قدرنا ولا مناص أم أن كبوات الشعوب أوثق صلة بالاستبداد من إيناع الربيع ومزهريات الأحلام المتناثرة على شفاه الثورات المغدورة..؟ ولماذا تقاعست النخب الفكرية والرموز الوطنية عن القيام بدورها في تأصيل ثقافة التغيير إلى الأفضل بوصف ذلك مرتكز المشروعية الثورية ومضمونها العادل؟

التفسير المنطقي لذلك التقاعس هو ذاته علة الثورات وسبب انحرافها.. ذاك أن السياسي المشبع بالانتهازية اللحظية والمثقف المشدود على جذع المصالح الضيقة كلاهما انسل من بيئة النظام السابق بركنيه سلطة ومعارضة، وكلاهما عاين خواء الساحات الاحتجاجية وركب الموجة.. وفيما ذهبت الجموع المحتشدة إلى تقديم التضحيات العزيزة دون مشروع يدون الأمنيات ويوثق مسارها كانت عملية التسلل الدراماتيكي قد بلغت أهدافها الكاملة على انقضاض التطلعات الشعبية المشروعة، وفرضت وصايتها على الثورة ليغدو المفهوم السائد من إسقاط النظام مقتصرا على العبث بمقدرات أوطاننا وانتهاج سياسات تدميرية أفضت في معظمها إلى إعادة الاعتبار للنظام السابق بخيله ورجله.

المؤكد أن أشقاء كثرين راقتهم حالة الانكسار المروع في بلداننا الربيعية وترى حكوماتهم في نتائج الثورات وخطابها الاستعدائي درساً يخدم توجهاتها ويحصن مجتمعاتها من النزق الطائش.. لكنها بحسن نية أو بدونها لا تدرك خطورة الإحباط الشعبي لمجتمعاتنا ومفعوله المتوسط والبعيد على الأمن القومي العربي، وطبيعة الاستخدامات الخارجية لهذا الإحباط ليصب في مجرى الاستراتيجية الأميركية الصهيونية المكرسة على إنجاز مشروع الشرق الأوسط الجديد، وبناء مجمع الكانتونات العربية المترنحة على تخوم الشرطي الاستعماري العنصري في المنطقة العربية والإسلامية.

والحال أن هذا البعض من الأشقاء مدعو لقراءة متون الربيع الذي كان..؟ وعدم الاكتفاء بالأعراض التي استهلكتها هوامش الانحراف، إذ لا وقت لاستثمار النتائج السيئة لمجرد النزوع إلى التشفي، فالقادم يؤذن بانفجار الشعوب جزعاً ويأسا، وحينها تصبح التجزئة جزءاً من جرع الإنقاذ الاستعماري.