الخدمة المدنية من المرتكزات الأساسية والقوية في هيكل الدولة الحديثة، وحين تتعرض لتآكل بسبب البيروقراطية أو المحسوبية أو الاستهانة باستحقاقات المواطنين في خدمة وطنهم والتعامل مع ذلك في إطار روتيني، فإن حالها يصبح مثل الفطريات التي تنبت في أي جسم، وسرعان ما تلحق به أمراض هي بالضبط خلل في صحة تلك الخدمة.
من تلك المشكلات التي تلحق بالخدمة المدنية، كرة الثلج التي يمكن أن نسميها "المعلمات البديلات المستثنيات" أو اختزالا "بديلات النواقص"، وهن بحسب مجريات المشكلة وتعقيداتها التراكمية في ظل عدم اتجاه وزارة التربية والتعليم إلى حلها طوال سنوات يعرفن اصطلاحا -إن جاز التعبير وأرجو أن يجوز- بأنهن من فاتهن تقديم وثائقهن لنقص أوراقهن بسبب فقدانها أو إتلافها.
أولئك المعلمات شملهن التثبيت وفتح الباب لحصرهن، وقد تقدمن بوثائقهن، لكن الذي حدث بعد ذلك ليس تعيينهن في مسارات إجرائية مكتملة، وإنما الذي حدث أن مدارسهن وإداراتهن أتلفت بعض وثائقهن، كما أن البديلات النواقص لم تفتح لهن بوابة التكامل لإدخال رغباتهن بحجة أن أوراقهن ووثاقهن ناقصة، والأدهى أن بعضهن لم يجدن مسيرا للراتب، وأخريات لم يجدن العقد، رغم امتلاكهن ما يثبت أنهن متعاقدات لما لا يقل عن عام في التعليم.
في الواقع نحن أمام متاهة واسـعة ضحيتها هؤلاء اللائي لا يجدن من يحسم أمورهن ويستعيد لهن حـق الخدمـة والعمل، فهن معرضات في الحقيقة لضياع سنوات خدمتهن دون مسوغات أو أن يكنّ طرفا في المشكلة التي تسببت فيها مرجعياتهن الوظيفية، سواء لإهمال أو بيروقراطية أو تجاهل، أو لأي سـبب لا يمكن أن يكون مبررا لإبقائهن على هـذا الحال المأساوي الضار بحاضرهنّ ومستقبلهنّ.
تثبيت "بديلات النواقص" أقل الحقوق التي يجب إعادتها لهؤلاء المعلمات، وقد حدث أن تم تثبيت زميلاتهن اللائي يعرفن بـ"البديلات المستثنيات" تنفيذا للتوجيه السامي الكريم الذي أمر به خادم الحرمين الشريفـين الملك عبدالله بـن عبدالعزيز، وهن يملكن الإثباتات المطلوبة وقدمن أوراقهن في الوقت المحدد، وما حدث من تسويف أو إتلاف أو إهمال لعقودهن ومستندات توظيفهن لا علاقة أو ذنب لهن فيه.
ليس من الإنصاف دفع أولئك المعلمات الى بوابة التكامل لأنها ببساطة لن تفتح لهن إلا بعد إكمال النقص، وهو نقص حدث بسبب ما أشرت إليه من احتمالات بالإهمال أو الإتلاف لم يتسببن فيه، ولا يمكن أن يكون ذلك مسوغا لإبعادهن أو حرمانهن من عملهن، لأن التقصير ليس منهنّ، وللوزارة كثير من الخيارات الأخرى التي يمكن أن تعالج من خلالها ما تسبب فيه موظفوها أو مدارسها من تضييع لأوراقهن وإثباتاتهنّ.
الرجوع إلى الحق فضيلة، والاعتراف بالأخطاء شجاعة خاصة إذا ارتبط ذلك بمصالح ومصائر أبرياء تعقدت نتيجة لأخطاء لا ذنب لهم فيها، ولذلك فإننا نعوّل كثيرا على وزير التربية والتعليم الأمير خالد الفيصل، لإنهاء وحسم هذه القضية والمعاناة التي تطال بريئات معلقات بين الوظيفة والبطالة، وذلك لا يتم ابتداء إلا بفتح بوابة "التكامل"، وإعادة النظر في التثبيت لجميع العقود والمؤهلات والأعوام، حتى وإن كان ذلك بأثر رجعي، ولما نعلمه من سموه في الوقوف بجانب مثل هذه الفئات التي تتعرض لتضييق وظيفي وعملي دون مبررات منطقية، فإننا نأمل في ابتكار الوزارة لأي مسار يستوعب تحمّل من تعرضوا للحقوق الوظيفية لهؤلاء المعلمات لمسؤولياتهم، ومن ثم وضعهنّ في مسار إجرائي مبتكر يعيدهن إلى وظائفهن بسلاسة، ويضع حدا نهائيا لهذه المعاناة والتسويف والهروب إلى الأمام من مشكلة غير قابلة لتجاهلها أو تسطيحها، لأنها تتعلق بمصير وحقوق مظلومات.