للإحاطة فإن محدثكم الفقير إلى رحمة ربه سعودي مثلكم، لكنه بين الحين والآخر ينزل الصوت المعلق بعيدا، ثم يجلد ذاته وأهل وناسه، وهو يفعل ذلك متطلعا إلى الشفاء الذي ينزل بعد وقع الألم.

ها أنذا أحدثكم من إجازتي الصيفية في بلاد الله الرحبة، وأرضه الواسعة، وأتذكر النكتة الدارجة التي تقول إن:

"تركيا ومصر ولندن وباريس وزيلامسي وأميركا مليانة سعوديين، وأيضا فإن قطر والبحرين ودبي والكويت نصفها سعوديون، وإن أكثر الذين يحاربون في سورية والعراق سعوديون، وإن المملكة نفسها زحمة ومليانة سعوديين.. وفي الأخير يسأل مندهشا: يا أخي علمونا الصدق أصلا إحنا كام مليون"؟!

وبالفعل فإنك حيثما اتجهت ويممت في بقاع الأرض، بعيدها وقريبها، غاليها ورخيصها، باردها وحارها، فإنك لا محالة ستجد السعودي ماثلا أمامك، وفي هذا الواقع نستنتج من هذه النكتة ثلاثة أمور:

الأول: أن هذا الانتشار والسفر المتتابع ينفي المبالغة عن حالة العسرة التي يتلمظ بها البعض في وسائطهم، وعلى العكس من ذلك فإنني أجد هذا المد السياحي في كل سانحة وإجازة قصرت أو طالت، هو تعبير عن الوفر والرخاء اللذين يتمتع بهما معظم أبناء المملكة، ولا أنفي في ذلك معاناة الكثير، وحالة الفاقة التي يعيشونها، لكنني أتكلم في المجمل وعن الأغلب.

الثاني: أن السفر الكثير تعبير عن كثرة الإجازات وبالتالي فهي استجابة لرغبة الناس.

الثالث: أن كثرة سفر السعوديين ربما إنه تعبير عن الهروب من الوطن في كل فرصة متاحة، وهذا ما يدفعنا لتحري ودراسة هذه الظاهرة، فإن كان ذلك صحيحا، وهو كذلك غالبا، فعلينا ـ بالتالي ـ التعرف على مواطن "الطفش"، و"النـكد"، ومواطن "النقص" التي تجعل المواطن يسافر لاستكمالها في الخارج.

قد يسافر السعودي بحثا عن الطقس المعتدل، وهربا من الحر، وأبها والطائف مصيفان معتدلان لكن بنيتهما التحتية ناقصة، ومع ذلك فإن المواطن يسافر كثيرا إلى مدن حارة ورطبة، وبالتالي فإن الطقس ليس حجة وحده!

ولأن المملكة ـ ولله الحمد ـ متسعة الأطراف، فإن ثمة خيارات عدة أمام المواطن من طقس معتدل ومدن عصرية حديثة فلماذا كثرة السفر؟ ولماذا كثرة "الطفش"، كما نسمع ذلك يتردد من أفواه الكثيرين؟!

ما أسباب النكد الذي ينفضونه في الخارج؟ هل نحن نعيش في بقعة غير مواتية للعيش السعيد؟ أم تغيرنا وتزيفنا إلى الحد الذي صار لكل منا شخصيتين، إحداهما: الشخصية النكدية واللوامة والشكاية والشكاكة، وهي التي تتقرفص وتنكفئ على نفسها في الداخل، والشخصية الأخرى هي تلك المرحة والفرحة والسعيدة والبشوشة والمنطلقة بسعادة وحبور في الخارج.

لماذا نكذب "علينا" في الداخل ونغير أحوالنا وشخصيتنا ونتكلف سلوكيتنا ثم ننطلق بعفوية وإنسانية وحرية في الخارج؟!

كل سعودي يشتكي بينه وبين نفسه من القيود الاجتماعية والأعراف ونقص الحريات، ولكنه هو سبب هذه القيود وصانع هذا الكبت وباني هذه السواتر، وهو متعهد ومقاول هذه الزنازين.

أيها المواطن: الليبرالي.. والمطوع الملتزم، دقق في كلامي قبل تأويله على غير محمله الصحيح، ثم دقق في سلوكياتك العفوية والمنبسطة في الخارج، لتعلم أنني لا أدعو للسفور أو الانحلال، ولكن أدعو أنفسنا جمعيا للتخلص من "انفصام الشخصية"، الذي نعاني منه جميعا، حتى صار السعودي الواحد سعوديين، أحدهما في داخل المملكة والآخر مختلف عنه في خارجها، والله أعلم.