في هذا العنوان كتب الأستاذ جهاد فاضل، قبل أكثر من شهر، أن الشاعر أنسي الحاج في إحدى المقالات الأخيرة التي سبقت وفاته، قال إنه لم يعد يهمه في جبران خليل جبران قصصه وكتاباته المعروفة مثل "الأجنحة المتكسرة" ولا آراء الباحثين والنقاد في هذه القصص والكتابات، وإنما الذي يهمه في جبران هو مقالات مجهولة له، ومقابلات قليلة نادرة له مع الصحافة العربية في المهجر، وشذرات غير معروفة تتصل بشخصه أو بسيرته، أما غير ذلك مما أشبع درساً، فلا يهمه، والجديد فيه قليل.

ويذكر فاضل أن هذا ينطبق على محمود درويش وأن شعر الأخير الذي وهبه الخلود هو عصارة شخصيته المرهفة المتوترة التي لم يعرف الشعر العربي مثيلاً لها منذ امرئ القيس، وصولاً إلى وقتنا الراهن، وكان من الطبيعي أن يكون للمزاجية قسطها البارز في هذه الشخصية المقيمة على الدوام في عين الإعصار.. فإلى المزاج كان يحتكم في أكثر الأحيان، إن لم نقل إن المزاج كان هو الآمر والناهي، ولكن المزاج كثيراً ما كان يتفتق عن أغرب الصور والمواقف.

يذكرني كلام فاضل بلقائي الأخير مع الشاعر الراحل محمود درويش الذي حلت ذكرى وفاته السادسة يوم السبت قبل الماضي 9 أغسطس 2014، وهو الشهر، أي آب، الحزين المعتم الذي يدخلني في نوبة قاتمة من الذكرى بعد رحيل الشاعر الأهم، كما أراه، في كل تاريخ الشعر العربي منذ بدء الخليقة والكتابة حتى يومنا هذا، فقبل نيفٍ وأربعة عشر عاماً، كنت أنتظر الشاعر الشاهق، في بهو فندق "هيلتون رمسيس"، حسب الموعد المحدد قبلاً، وعلى الرغم من الزحام والضيق في وقت المهرجان الذي كان مشاركاً فيه يومها، إلا أن محمود درويش لم يرفض رغبتي بلقائه في حين أنه اعتذر من كل الصحافيين الذين أزعجوه كثيراً بملاحقته ومهاتفته في غرفته.. قبل أن يجيء للبهو ونلتقي، سألني شاعر خليجي كبير: تنتظر مَن؟ أجبته "محمود درويش"، ضحك بسخرية وقال: "لا تتعب نفسك هذا الشخص مغرور جداً ولا يعمل لقاءات إلا بمقابل"! لم أعبأ بكلامه، ولم أزل أتذكر علامات الخيبة التي تقاطرت من ملامحه عندما شاهد درويش يقبل إلى حيث كنت أقف، مشيراً علي بأن نبدأ ساعتنا. في البداية سألني إذا كنت شاعراً أم لا؟ وأجبته بالنفي، لكنه بادرني بالقول: إنني أرى قمحاً وسيماً ينبت في عينيك ولا أظنك إلا شاعراً، قلت له: لست كذلك ولكنني أحب الشعر وسأكون سعيداً بمحاورة شاعر كبير مثلك. ابتسم وقال: بل يشرفني أنا أن يحاورني شاب مثلك، ثم بدأنا حديثاً إنسانياً لطيفاً أطل منه محمود درويش كشرفة بيت على ما يريد!

لم يكن محمود درويش مزاجياً كما ادعى جهاد فاضل، لأن ابن حورية قال لي يومها: "أنا لي عادات ونظام لأنني أعيش بالنظام، فأنا من كُتاب النهار، ولا أكتب في الليل أبداً. ولذلك عودت نفسي أو روضتها على أن أحاول الكتابة تقريباً كل يوم، وبخاصة إذا كنت أتناول عملاً شعرياً ذا ملامح شبه واضحة".

وأذكر أنني سألته عن الصدى الذي يسمعه لشعره في نصوص كثير من الشعراء الآخرين؟ فقال: أنا أقول لك الحقيقة، وبدون مواربة كل شاعر يفرح عندما يشعر بحضوره في الثقافة التي ينتمي إليها، وبحضوره أيضاً لدى قراء الشعر لأن العزلة بين القارئ والشاعر التي يسعى إليها بعض الشعراء هي تغطية على عجز (ما) لأن كل شاعر يكتب يحب أن يُقرأ وبدون هذه الجدلية بين الكتابة والقراءة بين الشاعر وقارئه؛ لا يمكن للشاعر أن يتطور، فأنا يسعدني أن أكون موجوداً. وعندما أصغي إلى أصدائي في نصوص الآخرين أعود إلى تنقيح نصي ليخرج من فخ تقليده، ولذلك هذا التقليد يدفعني إلى الصرامة في التجديد، أي يعلمني، لأن الذين يتعلمون مني يعلمونني كيف أتغلب على الثغرات التي يمكن لصوت آخر أن يرتديها وكيف لا أسمح لوجه آخر بأن يرتدي صورتي، وأنا لا ألوم من يقلدني بل ألوم نفسي، لأني أشعر بأن هناك فجوة ما عليّ أن أغلقها، صحيح أن التقليد ملازم لكل تراث شعري عربي أو غير عربي، والتأثر والتأثير متبادل وهو من أحد شروط الإبداع، ولكن عندما أرى وجهي مخطوفاً بطريقة غير تناصية، بطريقة استلابية، فإنني أعود إلى وجهي لألومه، ولا ألوم ذلك القناع الذي أخذ وجهي، فالذنب ذنبي لأنني سمحت لإيقاعاتي بأن تكون سهلة التقليد".

رحمك الله يا محمود درويش.. وأنا أضع الزهور كل يوم على نفسك الشعري الذي تخلو إليه حين كنت تمر باسمها كما يمر دمشقي بأندلسِ! وأتذكر أستاذتي "مها" الأميركية من أصل فلسطيني، التي قالت لي قبل سنتين وأنا أسألها هل سبق أن قابلتيه؟ فردت: أحب درويش ولو كنت قابلته يوماً لأغمي علي أو مت من الفرحة والإجلال معاً!

لا أنكر أنني كنت أضحك كثيراً كلما التقيت بمحمود درويش، لأنني، في لقاءاتي الثلاثة المتفرقة به، لم أجده كما يشاع عنه في أوساط المثقفين وبعض الصحفيين بأنه طاووس ومتكبر ومغرور. نعم كان أنيقاً ويتوافر على ذوق رفيع في هندامه وعالي القيافة، كأنما يحاكي شعره وإبداعه المتفرد لغة ومجازاً وتركيباً. وأذكر أنني عندما سألته في ختام لقائنا عن تهمة الغرور، انفجر ضاحكاً ورد متسائلاً: هل وجدت هذا فيّ؟ قلت له: لا. قال؛ دافع عني إذاً، واكسر هذا الانطباع الخاطئ. كان درويش بسيطاً ومرحاً وصاحب نكتة، وكان في الوقت ذاته ملتزماً تجاه القصيدة لا يضيع وقته في عبث يصرفه عن الشعر والقراءة، غير عابئ بما يمكن أن يقال عنه وما يتكلم به اليوم حاسدوه من الشعراء الآخرين، وهو ما كشف لي عدداً من الدروس النافعة التي تعلمتها في رحلتي تلك، وأثبت أنه ليس بالضرورة أن يكون الفنان أو المبدع صعلوكاً وفقيراً رث الثياب (مبهدل الخلقة)، لأن الفن الحقيقي يسمو بصاحبه ويجعله أكثر نظاماً ونظافة وترتيباً في كل شؤونه، وقد كان فضل الله عليّ كبيراً حين ألهمني رشداً وعقلاً يبعدني عن مستنقع الأوهام والأفكار المضللة التي كان يتم تكريسها في الوسط الثقافي والفني، للأسف، عبر ممارسات بعض شعرائه ومبدعيه وفنانيه، وربطهم الإبداع والفن بالبوهيمية والعدمية والسهر!

ولو كان لمحمود درويش أن يقول شيئاً تجاه كل هذا العبث لصرخ فيهم: أنا هنا.. وما عدا ذلك شائعة ونميمة!

محمود درويش شاعر يحرج كل الشعراء الآخرين، الذين رحلوا والذين بقوا والذين سيأتون أيضا!

في كل مرة أقرؤه أو أسمعه أعود (نشواناً) أقطر دهشة وأغنية "يأخذني الجمال إلى الجميل".

"هل تكون ولادة جديدة؟ هكذا يجب أن تكون. لا بد من ولادة. هل يصقلنا الموت؟ هكذا يجب أن يكون. لا بد أن يصقلنا الفرح. ستبدأ المقاومة. ستبدأ المقاومة. انتهى كل شيء. وتبدأ المقاومة". (محمود درويش ـ يوميات الحزن العادي ـ 1973). في هذا العام كان مولدي!