ينطلق الباحث في التاريخ ناصر الشدوي في بحثه عن جبل شدا الأعلى بمنطقة الباحة، من أن هذا الجبل شهد منشأ البشرية، وأنه موطن حياة البشر الأول، محاولا حشد الكثير من الشواهد والأدلة التي تثبت عراقة المكان، فيسوق الكثير من الأبيات الشعرية لشعراء جنوبيين كانت أشعارهم تذكر "جبل قاف"، لكن دون تصريح باسم جبل شدا الأعلى.
وعن قدم وأهمية تاريخ الجزيرة العربية لا سيما جهات الاستقرار في الجزء الجنوبي منها، كعسير والباحة استشهد الشدوي بقول الرحالة البريطاني جيرالد دي جوري، وهو من أواخر الرحالة البريطانيين الذين وصفوا جزيرة العرب: "هناك واديان في عسير واليمن والحجاز وخرائب قد تقدّم ذات يوم لعلماء التاريخ وللعالم معرفة أكبر بالدول القديمة.. وبالممالك الأقدم لشبه الجزيرة العربية، وقد تفصح بوضوح عن معاني الكتب المبكرة للتوراة وعن معاني التلميحات التاريخية في القرآن".
وقصة جبل قاف التي وردت في بعض السِّيَر، تصور جبل قاف جبلا عظيما يحيط بالأرض، وأنّ الله أقسم به في مستهل سورة "ق"، وهو جبل تتكون صخوره من الجرانيت الخالص، وفيه من الأحجار الكريمة "الكوارتز" ذات القدرة الكبيرة على إحداث الطاقة، وفيه أنواع كثيرة من العناصر الجيولوجية النادرة في العالم، ويعود تكوينه ـ بحسب دراسة هيئة المساحة الجيولوجية بجدة ـ لعصر الكمبري (أقدم حقب الدهر القديم)، مما يجعله من أوائل الطلائع التكوينية في الأرض وعمره 763 مليون سنة، وفيه أكبر تنوع نباتي في المملكة حيث يشتمل على ثلثي التنوع النباتي فيها.
ويقع على قمته التي ترتفع عن سطح البحر بنحو 2200 متر، ما يصفه المهتمون بأصغر مسجد في العالم وأقرب مصلّى إلى السماء.
يقول الشدوي عن هذا المسجد: "وقد صعدت إليه أكثر من مرة وهو يحتاج إلى قرابة أربع ساعات مشيًا على الأقدام من أقرب قرية للمصلّى، شيّده وتعبّد فيه ناسك يقال له إبراهيم، قيل إنه إبراهيم ابن الأدهم الناسك المعروف، وقيل غيره. والغريب أنّ قبلة المسجد والمصلّى الحجري تتجه نحو بيت المقدس كما يظهر من خلال بوصلة القبلة".
ويميل الباحث إلى تأييد القول بأن جبل شدا الأعلى هو جبل "قاف" الذي وردت الإشارة إليه في مستهل "سورة ق"، لا سيما أنّ الكثير من الإشارات التي ذكرها بعض المؤرخين المعاصرين ممن بدؤوا في إعادة قراءة المكان في منطقتي: عسير، والباحة تدلل على أنها كانتا مسرحًا لمعظم القصص التاريخية التي ورد ذكرها في القرآن.
ويعلل الباحث جمعه للشواهد برغبته في أن يفتح عمله مجالاً خصبا لإحداث رؤية جديدة وفتح الأبواب على إعادة قراءة المكان في ضوء الإشارات والتلميحات التاريخية، وما ورد في أشعار شعراء معروفين في المنطقة الجنوبية، التي ربما يأتي من يدرسها عن كثب ليصل إلى حقيقة كانت غائبة لسنين طويلة.
ويعتمد الشدوي على أشعار شعراء العرضة الجنوبية، التي تشير من قريب إلى "جبل قاف"، مؤكدا على أن هذ الجبل هو ثاني جبلين ذكرا في "معجم البلدان"، وهما شدوان الأعلى والأسفل.
وتوجد على صخور الجبل الكثير من الرسومات التاريخية التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين كرسم كهف هريتة الشهير، وغيرها من الرسوم التي تنتشر في بعض الكهوف الطبيعية، وهي رسوم لحيوانات كالغزلان والمها والوعول والثيران، وكذلك لأناس في وضع راقص يتوشحون أسلحتهم التقليدية كالحراب وغيرها.