الكتابة عند الشاعر غسان الخنيزي ابنة التمهل. يقارب نصه في دقة جراح وانتباه صياد. لا يقنع بكتابة أولى أو ثانية أو أن زمنا طويلا مر على كتابة النص في نسخته الأولى؛ فيعيد المراجعة والصقل تبديلا وحذفا وإضافة للمقاطع والكلمات.. وأحسب أن التلقائية التي تأتي بالنص يعدها تمرينا أوليا وممارسة تمهيدية يقودانه إلى حقل الاختبار المزروع بالقلق وبفيض من الوسواس؛ ينظر إلى شجرة نصه ويقلب في أغضانها تشذيبا وتهذيبا وتنقيحا. وكأنما غسان يبحث عن موالفة هائمة أو رنة ضائعة؛ الانسجام الذي يرضيه، ولو موقتا، ليفرج عن النص ويطلقه في فضاء النشر.. وهو في ذلك لا يخلو أمره من اقتراح يتجاذبه حتى في عنوان الكتاب كما حدث مع كتابه الأول "أوهام الصغيرة أو التي تراود الموهوم في الحمى" وكتابه الثاني "اختبار الحاسة أو مجمل السرد" (دار مسعى للنشر والتوزيع، البحرين ـ 2014).
في "اختبار الحاسة..." يستلم القارئ حالات مكتوبة بوعي جمالي ومعرفي سمته الحفر والتأمل، والامتداد مع تلك الحالات انغمارا وغوصا وتوسعا في التموج معها.. فتشعر به تارة في غاية الالتحام والتغلغل والحسية التي تشف وترق (نصوص اختبار الحاسة؛ نصوص فيزياء)، وتارة أخرى يتصل دون أن يوغل فيلمس بخفة كما لو كان مشغولا بفتح نوافذ متعددة تستوعب الحالة غامسا ريشته في جلد مائها؛ يحدث اهتزازا قليلا كفيلا بتركيز النافذة في توقيعة مشهدية يذهب عنها اللفظ وتبقى الصورة مائلة وحدها (نص "القاهرة" المكتوب بالعين).. وفي طور ثالث وبإداة السرد يتموقع منفصلا مراقبا؛ ينعم النظر والتسجيل لأدق التفاصيل وفي الوقت نفسه تذوب ـ تلك التفاصيل ـ في نهر التأمل صانعة الأثر أو الدوامة التي تنشأ عنها وهي مرفوعة أحيانا في عنوان النص (نص "تشبب"؛ نصوص حكي).
وضعية الاستغراق التي نجد الشاعر عليها، أحسب أنها هي ما تترحل به في أعطاف النص؛ يفتق ويسري؛ يتجاوز ويتصل بالمكامن العميقة تكشفها ضربة الانتباهة الفاتنة؛ تكشط السطح وتنفتح على آيقونة تأخذ الحواس من الجسدية والمباشرة الخارجية في إحداثيات معلومة إلى مساحة شاسعة منبسطة تفيض بنعمى أبعد من أن تندرج في الجسد وفقط. إنما تذهب صعودا في حالة من النشوة الروحية يتقاطبها الخروج من رقعة البدن والالتحاق بفردوس لا يصنعه إلا الحنين بوصفه مثالا لا ينال؛ فقد نيل مرة واحدة ولن يتكرر إلا كحلم.. كاستيهام يورق ويشع من بعيد، ولا يعمل القرب إلا على رفْع هالته: (أراني أستمع وضوء قليل يضيئ نصف الوجنة المدورة، الشفيفة، التي بقدر ما يعتليها من أسى؛ تحيط بها هالة من الحياة الخاصة، هالة لا تسمى ولا توصف، ليس لأنها الأكثر جمالا، بل لأنها الأحلى روحا. أستمع ويعتصرني توق إلى ما لا يستعاد، يعتصرني أسى، ويعتريني حبور بالحضرة ذاتها، بالحضور، بالاحتفاء الذي يحدث ويتابع شقيقة الروح هذه ـ نص "شقيقة الروح، شادية").
وبالرغم من أن طريقة الخنيزي في الكتابة قائمة على التأمل، وعلى الوصفية والسرد في أجزاء كثيرة منها، وعلى الحفر خلف الجلد شأن الصور الشعاعية الطبية؛ بما يعني الإبراز والظهور والتجلية.. إلا أن المفارقة الاحتفاظ بمسافة وبحد يمنع من انفلات المعنى بشكل مباشر. ذلك أن النص يكتب في ضوء خفيف ونائس، لا يكشف ما تحته واضحا ولا يجليه للعين في تمام هيئته أو ما يشبهها. خيالات وأشباح ربما تمر.. ربما تتلبث غير أنها تظل منطوية على سرها آمنة إلى ضوء خفيف ونائس تلبس ما يمنحه من ظلال وثغرات فتلتبس ويدق جرمها هائما في الاشتباه الذي لا يعين ولا يرفع غطاء عن محجوب يندس في تضاعيف المشهد وفي شعاب اللغة؛ الاشتباه الذي يروغ وينسرب فيصون ويحمي من الابتذال والعبث إذا ما تحدد وقر إلى سكون تتضح فيه الهيئة ويستقيم الرسم وتنبئ العلامة عن مكنونها: (سنبحث دونما تبصر، عن السراب في أيامنا، وعن الأرواح في الليالي: تظل أشياؤنا قريبة من التمني، قريبة من الذكرى، بعيدة عن نور أعيننا وعن القبضات التي نملك ـ نص "معايشة").
* كاتب سعودي