قراءة الأعمال التي تتناول تجربة السجن تترك خلفها، في نفس القارئ، خيالات وأشباحاً كريهة، لها ضحكات لا تعرف الرأفة، وتترك أيضاً وجوها شديدة الأسى والقهر.
ذكريات من منزل الأموات لديستويفسكي، السجينة لمليكة أوفقير، تلك العتمة الباهرة للطاهر بن جلون، القوقعة لمصطفى خليفة، من بلاط الشاه إلى سجون الثورة لإحسان نراغي.. إلخ، وستعيش معك المشاهد التي نزف بها فرج بيرقدار في روايته خيانات اللغة والصمت، في سجون المخابرات السورية، لن يمكنك أن تنسى مشهد أحد السجناء والضابط يجبره على أن يبتلع فأراً ميتاً، وكيف كان يتدلى ذيل الفأر من شفتيه، وهو يحاول ازدراده.
قصة مثل هذه قد تنشب في كل زاد تنظر إليه لأشهر، هذا وأنت قرأت فقط، كيف بهم أولئك الذين عاشوا هذه الفظاعات! كيف لك أن تتخيل أن بيرقدار وبينما هو يحكي هذه القصة في مكان ما، يتقدم أحد الأشخاص ويقول لك إنه هو ذلك الشخص الذي أجبروه على ابتلاع الفأر. السجون ذلك المكان المصغر عن الجحيم على الأرض، ومهما يكن أي بلد على وجه هذه الأرض عادلاً، بقضاء عادل وقوانين تضع الجميع على مسطرة واحدة، إلا أنه يحدث في السجون ما يحدث. قبل عدة أشهر وفي بلد مثل أميركا، يُفترض أن ساكنيها تحت صرامة القانون، يحدث أيضاً وقبل أن تودع دبلوماسية هندية في السجن أن تتعرض لضرب وتعرية مهينة، صادتهم الكاميرا وضجت بها قنوات العالم. لا أحد يعرف حقيقة ما يحدث بين تلك الجدران، أينما كانت!
عمل سعد آل سالم "سبع عجاف"، الصادر عن دار الرحاب في بيروت، لهذا العام 2014، يمضي في هذا النَيل. الراوي تربطه علاقة بالطبيب النفساني "مازن"، الذي ذهب إليه ابتداء ليجد علاجاً لاكتئابه، بعد أن تعثر عمله الصحافي، وفي أحد الأيام يسمع صوتاً عالياً، هذا الصوت سيكون لأحد المرضى "يوسف"، وهو ينفجر بذكرياته المريرة كي يتخلص منها، بينما يقوم الطبيب بتوثيقها. الراوي وعبر علاقته بالطبيب النفسي، وبدافع فضوله الشديد، يحصل على الموافقة بالاطلاع على بعض ما أذن له السجين يوسف من تجربته، متمنياً على الراوي/الصحافي أن يخرجها في كتاب، وهكذا يمضي العمل حتى نهايته، في سبعين مذكرة، من ذاكرة واحدة؛ الممرات الضيقة، ضياع الأحلام والسنين، الجوع العارم لأي فرح، عذابات النوم والنظافة، الازدحام والإهانات، كبار السن والمغتربون، المباغتات والخديعة، الخذلان والعزلة، طول الأيام والهم، التهديد والاستقواء والانتزاعات، المرض والشفاء، الأمنيات وملاحقة الشمس، المطر وصوت الأرض، الصحبة والمهربَات، ذكريات الطفولة، المذهبية والتعايش، الحوار والمصير.. إلخ. هناك الكثير من التفاصيل الموحشة والمؤلمة في الكتاب، وأكثر منها في ذلك المكان.