زميلي الدكتور محمد في ألمانيا يستقبلني دوما بضحكة عريضة وقصة غريبة، وجرت عادتي أن أهجع عنده في الغابة، حيث ابتنى منزله في حواف بلجيكا المتاخمة لألمانيا، والحدود هنا مضحكة فعلا، ولفترة كنت أمر فأرى (الكولبات) أي غرف الخشب الحدودية للجمارك وقد عششت فيها العناكب وعلتها الغبرة، حتى أزالوها مع الاتحاد الأوروبي؛ فلم يبق لها أثر ولكنني كنت أمرُّ فيها فأحدق وأنظر ثم أعبس وأدبر وأقول أما نحن فقد تحولت أكشاك الخشب بين الحدود العربية إلى أسوار شاهقة من الأسمنت المسلح والألغام وحرسا شديدا وشهبا؟ ومن فتح الحدود كان الأتراك كما فعل الطيب إردوغان بفتح حدود ألف كيلومتر بين سوريا وتركيا، أما المغرب والجزائر فهي مغلقة بأشد من سحاب البنطلون لا يمر منها دركي ونحلة ولا يدب فيها نملة وأرنب بري؟

التفت إلي زميلي الدكتور محمد وقال ما رأيك فيمن يطلب الموت وما هو ببالغه؟ قلت له وضَّح أكثر؟ قال سيدة جاءتني وجلست إلي مع ابنها وهي في الخمسينات، فقالت أنا امرأة ميتة قد انتشر السرطان في جسدي، وأمامي ورقدة القبر ستة أشهر تزيد وتنقص!! تابعت السيدة زيلكه: إنني أريد أن أموت بدون ألم فالمرض سوف يقص عظامي ويقض مضجعي!! هل من جرعة مريحة؟ فقد سويت أموري وفرقت ثروتي وأوصيت وصيتي، وأصبحت أنتظر الموت في كل حين؟

قال زميلي الدكتور محمد قلت لها وابنها يحدق في الموقف صامتا: أنا طبيب مهمتي تخفيف الألم والمساعدة على الحياة وليس الموت؟ أجابت بلهفة: أعرف ذلك ولكنك تعينني في تخفيف آلامي وأنت تعرف ما معنى الألم والسرطان يثقب العظم وينتقل للكبد ويخنق الرئة ويفتت الدماغ؟ لقد شرح لي غيرك من الأطباء مسار مرضي وأنا واعية له تماما؟

قال لي الدكتور محمد ما زالوا فيَّ بين ذهاب وقدوم حتى التقطوا مني بعض المعلومات (العلمية) عن الأدوية القاتلة للإنسان من سم أفعى الصل كما راج ذلك في قصة موت كليوباترة حتى فندتها سيدة تحرية من الجنائية الأمريكية، أو حقنة بوتاسيوم تريح القلب فيسكن فلا ينبض كما فعلوا مع النعجة دولي التي شاع خبرها حتى عجّزت قبل الشيخوخة فأنهى حياتها من استولدها من رحم نعجة أخرى؟ وهناك سم الشوكران الذي مات فيه سقراط، ثم تزحلق من فمي الأنسولين؟ وهنا التقطوا هذا وقالوا وهل يموت أحد بحقنة الإنسولين؟ قلت لهم بلهجة الغائب من حقن نفسه بكمية كبيرة نقص السكر عنده إلى درجة غيبوبة الدماغ فالموت، والأطباء يعرفون جيدا عن مرض السكري أن ارتفاعه للمئات ليست بخطر نقصه للعشرات، وهي حالات رأيت بعضا منها فلما أعطيناهم السكر الحلو خرجوا من لجة الموت؟

قال لي الدكتور محمد في الصباح جاءني استدعاء على عجل فلما وصلت كانت السيدة المذكورة تغرغر في سكرات الموت؟ سألت ما بالها؟ هنا اعترف ابنها أنه حقنها بالإنسولين على رغبتها ثم التفت إليَّ سائلا لم تمت بعد؟ هززت رأسي وقلت بينها وبين الموت حاجز بسيط، وخلال ساعتين كانت قد ودعت حياة الكدح والتقت بربها فسائلها عما قدمت يداها ولو كان مثقال حبة من خردل؟

لقد اعترف رئيس نقابة الأطباء الألمان يورج ديتريش هوبي أن هذا الموضوع كان حجرا محجورا ولكن الكثير من الأطباء يميلون إلى البت فيه أنه حق من حقوق المريض في التصرف ببدنه، وهنا نواجه مسألة معقدة في أخلاقيات الطب فهل نمشي مع رغبة المريض سلبا وإيجابا إن رفض العملية الجراحية كتفنا أيدينا وإن أراد جرعة الموت أعطيناه إياها؟

إنها قضية عويصة ولكن الأطباء يواجهونها كل يوم.