من الصور الاجتماعية الملحوظة مؤخرا في مجتمعنا السعودي، الذي يخطو على مهل وبشكل متعثر نحو الانفجار المعلوماتي والتكنولوجي العالمي، نلاحظ التفاعل الكبير في الشبكات الاجتماعية وخاصة في أي "وسم" ينشأ إثر أي حدث أو قضية اجتماعية مهما تفاوتت في أهميتها. ولا يكاد يمر يوم إلا ونشاهد وسماً جديداً أو أكثر يستحوذ على اهتمام المتابعين ونجد فيه المفارقات العجيبة والملفتة في آن واحد.
في الأسبوع الماضي وجد وسمان لقضية واحدة تتحدث عن الشاب الذي وقف معترضاً على صعود شاعرة خليجية أمام جمهورها في أمسية شعرية ضمن ملتقى الشعر الخليجي المقام في الطائف، برعاية صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبدالله بن عبدالعزيز، أمير منطقة مكة المكرمة، وبحضور عدد من شعراء وشاعرات الخليج. قاطع الشاب باندفاع الشاعرة، طالباً منها المغادرة نحو مكان يخص النساء، مدعياً أن في هذا مخالفة لتعاليم "ولي الأمر"، ولم يستمر الأمر طويلاً حتى تم إخراجه من القاعة بسبب الفوضى وعدم الاحترام الذي بدر منه.
تفاعل السعوديون كالعادة في الوسم الذي يتحدث عن تصرفه هذا واختلفت الآراء أيضاً وتباينت بين مؤيد ومعارض ومبرر وساخط، وهنا يبرز التساؤل: هل ما يدور في هذه "الهاشتاقات" يمثل الرأي الغالب والسائد في المجتمع؟ وبعيداً عن "المادة" التي خلقها هذا الموقف وموقف مماثل في اليوم التالي مباشرة حينما اعترض آخر على ذات الفكرة من ظهور امرأة أمام الرجال في بداية جلسة نقدية كانت فيها إحدى الأديبات السعوديات تقدم ورقتها النقدية، والكثير من المواقف المشابهة التي نراها ونسمع ضجيج صخبها "وعنتريات" منفذيها التي يباركها البعض في الملتقيات والمهرجانات التي تشارك أو تظهر فيها المرأة، وما سوق عكاظ ولا معارض الكتب عنا ببعيدة، بعيداً عن كل هذه الأمور التي لا نعلم متى يخلو مشهد الحياة السوية في بلدنا منها، فإن مثل هذه التصرفات الرعناء من شباب متحمس لقضية خلقها المجتمع عبر تراكمات الخطاب الوعظي والعقل الجمعي السائد منذ سنوات تحرج المملكة وتحرج مؤسساتها التي تحاول أن تسهم بشكل متحضر وعصري مع بقية دول العالم في المناسبات المختلفة. وقد تؤدي مثل هذه التصرفات الارتجالية لتكريس العزلة الثقافية من جهة وتفشي هذه المواقف من جهة أخرى والتي ينبغي التوقف عندها بصرامة وحزم، وذلك بسن قانون يجرم ويعاقب من يربك سير أي ملتقى أو فعالية تُنظم تحت مظلة ورعاية وزارة أو جهة حكومية.
الغريب أن هذه المواقف "الاحتسابية" تكاد تنحصر في الفعاليات الثقافية بالذات، فلا نرى من يوقف طبيبة تقدم محاضرة أو تشارك بورقة عمل في ندوة علمية في حشد من الأطباء أو العلماء والأمراء مثلا، وهذا يؤكد الإشكالية التي يعاني منها المجتمع الذي جلدت ظهره سياط الصحوة وجعلته مسخاً في تعامله مع المرأة والفنون. فمع تواضع الفعاليات التي تقام إلا أنها لا تنتهي إلا بوصمة خجل من تطاول أو تجمهر أو كل ما من شأنه الاعتراض على وجود المرأة أو الموسيقى.
في تصريح وكيل وزارة الثقافة والإعلام الدكتور ناصر الحجيلان عن الملتقى محور الحديث قال: "إن استضافة هذا الملتقى في المملكة يعد فرصة سانحة للمبدعين والمعنيين بالأدب من جيل الشباب للاستفادة والالتقاء بالشعراء والنقاد وبناء علاقات ومعارف تزيد التجربة تنوعاً وتفتح آفاقاً جديدة للإبداع في هذا الجانب"، وبدون تأكيدات لترضية الحزب المعارض لهذا الملتقى، فإن المشاركات من داخل المملكة وخارجها سيدات مسؤولات عن تمثيل بلادهن وثقافتها ولم يتم اختيارهن عبثاً، ثم تجد نفسها فجأة في موقف محرج ولا مسؤول أمام الجموع من "صبي" كُرّس في ذهنه أن المرأة عورة، وظهورها أمامه مباشرة بالرغم من حجابها – الذي لا يتوافق بالطبع مع مقاييسه - يستفز عقليته الذكورية التي ينحصر تفكيره في أنها مثار "اشتهاء" وأنه يحق له أن يعتبر نفسه عليها ولياً وعلى كل أنثى بالكون.
حرية الرأي التي كفلها الإسلام والإنسانية مقياس للتقدم، ولكن على من يؤمن بأن للرأي حرية عليه أن يؤمن أيضاً أن الفضاء يتسع للجميع، ويستطيع الكل أن يقول كلمته دون تهجم وانتقاص أو إرباك للمنظمين وللصورة الثقافية في بلدنا، ويستطيع أن يمرر رأيه وانتقاداته ورؤاه عبر الوسائط الصحيحة التي لا تسيء للمشهد الثقافي والاجتماعي أكثر مما هو حاصل.
وعودة للحديث عن الوسم الذي تناول هذه القضية والآراء التي ظهرت فيه نلاحظ أن البعض يؤيد تصرفه الهمجي، ويلبسه ثوب التدين ويقرنه بالآيات والأحاديث ويلويها لتأييده مما يسهم في زيادة تشكيل وعي لدى المشاركين بالوسم مشابه لوعي ذلك الشاب الذي وقف معترضاً ويصدره آخرون كبطل فعل ما لا يفعله البقية "المتخاذلون"، وإن كان مخلاً للنظام ومتجاوزاً حقيقة الشعيرة (الأمر بالمعروف) التي يتذرع بها الكثير في مثل هذه المواقف. مثلما نحتاج قوانين واضحة وصارمة للتحرشات الجنسية وحماية الطفولة وحقوق المطلقات والأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة، نحن نحتاج قوانين تحمي صورة المثقف السعودي وضيوفه وفعالياته من "الفزعات الاحتسابية" التي تمر كل مرة بسلام يقويها المرة التالية وتتجاوز معها السلطة الممنوحة للوزارة في التنظيم. القانون وحده وقوته هو "الأساس الخفيّ للسلطة" كما يقول الفيلسوف جاك دريدا. ولنا أن نتخيل كيف سيكون مجتمعنا و"هاشتاقاتنا" إن أصبحت المرأة والفنون، من مسرح وموسيقى وسينما، أصبحت أشياء طبيعية فيه مثل الهواء والماء.