في الثمانينات الميلادية صدر كتاب بعنوان "التحول الكبير"، ألفه جون نيسبت يتحدث عما تراه الآن من تحولات في عصرنا الحاضر الذي تحول إلى "العصر الرقمي" أو "عصر المعلومات" أو عصر "القرية الكونية". وشرح الكتاب كيف انتقل العالم من العصر الزراعي إلى عصر الصناعة الذي مكث فيه ثلاثة قرون وكانت بداية نهايته في الثمانينات ونهاية نهايته سنة 2000م ليتم التحول الكامل السريع من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات. وتوقع الكتاب هذا الانتقال السريع وقال جون نيسبت في كتاب التحول الكامل: "سيتم الانتقال لا محالة إلى عصر جديد هو عصر المعلومات، ومن السخف ألا نعيش عصر المعلومات في عصر المعلومات". وفي هذا العام صدر كتاب بعنوان: "العصر الرقمي الجديد: إعادة تشكيل مستقبل الناس والدول والأعمال"The New Digital age: Reshaping the Future of People Nations and Business.ألفه Eric Schmidt رئيس شركة Google حالياً والمدير التنفيذي السابق لها وعضو سابق في مجلس إدارة شركة Apple. وJared Cohen وهو شاب يعمل "مديراً للأفكار" في Google. وهذا الكتاب استكمال لما بدأه جون نيسبت في كتابه "التحول الكبير" حيث يتحدث كتاب "العصر الرقمي الجديد: إعادة تشكيل مستقبل الناس والدول والأعمال" عن التحول الكبير الذي طرأ على عالمنا في الألفية الثالثة بسبب اتسام هذا العصر بما يسمى "الرقمية" التي تعيد صياغة مستقبله برمته وبمكوناته الأساسية: الناس والدول والأعمال.. وقبل أن يعلن عن الكتاب بـ"النيورك تايمز" قفز لقمة قائمة المبيعات بشكل مذهل وسريع. استثمر المؤلفان مصادر المعلومات التي يتربعان عليها وعلاقاتهما وذكائهما لإثراء مادة الكتاب وتحليل عصرنا الرقمي بطريقة غير مسبوقة. والنتيجة كانت هذا الكتاب المليء بالفكر الجديد والشواهد والأمثلة المبنية على البحث العلمي والإبداع، التي جعلت المتخصصين في التقنية والناس العاديين على السواء يسمع لهم "طنين" -كما يقولان- ويفكرون بعمق حول مستقبل عالمنا. بدأ الكتاب بالحديث عن الفكرة القديمة :"هناك عالمان" عالم رقمي وعالم واقعي أو ماديBoth Digital and Physical Worlds ثم قام المؤلفان بالتوسع في هذه الفكرة وتمديدها ليقولا إنه قد وصلت إلينا مدنيتان.. إحداهما تطورت خلال آلاف من السنين والأخرى لا زالت في مرحلة "الحضانة". واحدة يتسم عالمها بالقدم في الثقافة والدولة والحكومة والمؤسسات وبناء القوة والقوانين، والأخرى عالمها "ديناميكي" وغير متحكم فيه وفوضوي Anarchistic.. عالمها حدوده مسامية Porous.. وقوانينه وقواعده غير واضحة والقوة فيه مرنة وموزعة ومنتشرة.. وبينما يعيش هذان العالمان في وقت واحد، كل واحد منها يحاول كبح الجوانب السلبية في الآخر، ومن هنا يبدأ الصراع، وخلافها يتفاقم مع مرور الزمن.

ويشير الكتاب إلى أنه خلال عشر السنوات القادمة سيرتفع عدد مستخدمي الإنترنت من 2 بليون ميسور إلى 7 بلايين يستخدمون الإنترنت.. 5 بلايين آخرين بحكم الضرورة. وينصح الكتاب بأننا يجب أن نهيئ أنفسنا للتشويش "Disruption" والتمزق. والكتاب يستشرف الوصول إلى تلك المحطات دون أن يوضح كيفية الوصول إليها، ومثلما توقع كتاب "التحول الكبير" الانتقال إلى العصر الرقمي تحدث الكتاب الجديد عن تنبؤات عن قضايا مثل مستقبل الدول والثورة والإرهاب والصراع والحرب والمواطنة والهوية، لكن الحديث حول هذه القضايا قد لفه الكثير من الغموض. وقد ذكر أن كل تلك الجوانب سيصلها تأثير العالم الرقمي، لكن المؤلفين لم يقولا لنا كيف سيتم ذلك.

لم يرسم لنا خبيران يعملان في "جوجل" صورة وردية كما هو الحال في الخدمات التي تقدمها هذه الشركة العملاقة للعالم وبدلاً من ذلك أوردا لنا الكثير من الأمثلة على كيفية التأثير السلبي للعالم الرقمي علينا كدول ومؤسسات وحكومات وأعمال وأفراد. انكشاف كل مستور عن طريق الكاميرات الجاهزة للتصوير على مدار الساعة ومن قبل كل الناس؛ حيث أصبح التصوير والبث في متناول كل الناس. توفر ما يسمى باللجوء الإنترنتي..Internet Asylum seekers. حيث أصبح بإمكان أي فرد طلب لجوء "إنترنتي" لأي دولة تمكنه من نشر ما يريد إذا لم يتمكن من نشر ما يريد في نظام الدولة التي يقطن بها. وهذا أمر جديد لم أسمع به من قبل.. وظهر ما يسمى" التعددية الافتراضية" التي تعني حرية نشر المعلومات عن الدول والأشخاص لأي هدف حتى لو كان للتشويه، ومؤسسة Wikileaks مثال على ذلك. وجود المعلومات بصورة دائمة وعدم القدرة على إزالتها. وإرهاب المعلومات عن طريق سرقة الأسرار التجارية واختراق المواقع الإستراتيجية مثل وزارات الحرب والبنوك.. واختراق أنظمة الدول.. إلخ. وبالنسبة للدول فقد ولى زمن الأيام السهلة لسياسات داخلية وخارجية، حيث يؤكد المؤلفان أن قوة العالم الواقعي للدولة لا تضمن قوة عالم افتراضي لها. ولهذا أصبح على الدول أن تبحر في أمواج متلاطمة بين عالمين متناقضين فيما يتعلق بسياساتها الداخلية والخارجية. وثورة عبور المعلومات إلى كل نقطة في الكرة الأرضية، والتأثر بذلك لعبور وسهولة الاتصال بين الأفراد والجماعات، والقضاء على صعوبات اللغة وتعدد مصادر الفكر. ظلم بعض الناس عن طريق الاشتباه فيهم عند نشر صور مطلوبين مباشرة والاحتفاظ بهم لفترة من الزمن.. ظهور ما يسمىDigital caste system حيث تتحدد خبرات الناس حسب مستواهم الاجتماعي وتكون الحماية من سلبيات التقنية للميسورين نسبياً (2 بليون) ومتدنية للبقية (5 بلايين).

ويقول المؤلفان إنه لا يمكن التصدي للعالم الرقمي ومحاربته بل يجب التصالح معه. وقالا إن العالم الواقعي الذي يمثل الناس والدول والحكومات والأعمال لا يمكن أن يصمد في وجه العالم الرقمي، فالمصالحة هي النهج الذكي للتعامل معه. الكتاب يحمل الكثير من الأفكار التي تساعد على النجاح في هذا التعامل، وهو جدير بالتحليل خصوصاً وأن مؤلفيه خبيران متألقان في هذا المجال.