إنها الرشاقة والخفة والسلاسة والانسياب مثل الماء. لا بد من تسجيل هذا الانطباع الأولي أثناء قراءة الرواية الأولى لعبدالله باخشوين "سلطان سلطانة" (نشر مشترك: نادي الرياض الأدبي؛ المركز الثقافي العربي ـ 2013) حيث الدراية التامة والدربة الشاملة بأسرار الحكاية؛ تشويقا دون إملال ولا وقوع في الإغراء الذي يؤدي إلى الإطالة والتفريعات لأن شهوة الحكي عندما تستحكم لا يردعها رادع.. حيث الخبرة في عالم الكتابة والقراءة والإلمام بأسرار الجماليات التي تتبلور في موشور مشع في كل ضلع من أضلاع القول الروائي الذي يجمع في هذا الكتاب بمهارة بين التلقائية والقصد؛ اللعب والنظام؛ السطح والعمق؛ المسح والتحليل.

بنعومة، ومن السطور الأولى يضع باخشوين قارئه في قلب الحكاية. لا تمهيد فارغ ولا حشو ينتفخ به الكتاب. تعيين الموضوعة برشاقة وبضمير الخطاب الذي يجعل القارئ طرفا منغمسا لإحكام ارتباطه ثم الانسلال منه برهافة والإمساك بناصية الكلام بضمير المكتلم. نعرف البذرة، وها هي تنمو في حقل الحكاية:

"في سن الرابعة عشرة، يبدأ غزو النساء لك. بطريقة ناعمة.

أنت تنتظرها.. لا تدري كيف.. ولا لماذا، لكنك تنتظر.

تتحرك فيك مشاعر غريبة لم تذهب إليها.. أنت.

ما إن تضع رأسك على الوسادة، في أول النوم.. حتى تجدها تبث تيارا خفيا بين برودة الفراش ودفئه.

تعصرك كذلك.. لا راحة فيها ولا ألم، لكنها ستجعلك تغرق في ظلام الغرفة لترى".

استهلال بارع بأربع جمل موقعة بصريا ونبرا، تنتشر مثل الدبيب الحلو وتسري نحو الجمال المنتظر من وقائع تنتمي إلى الذاكرة؛ وقدة الصبا وضرامة المشاعر الهائمة حتى تلتقي بحوضها أو المصب الذي لن يتكرر. وربما كان الظلام وسيطا ملائما للتعرف والعبور. كأنه القاطع الزمني للرجوع والتمهل عند فترة عمرية لم تنس وظلت تحفر كامنة لتعود صورة نابضة لم يخدشها الزمن ولا خفف من عرامتها.

يعود الراوي إلى حارته في الطائف، تشير زمنيا إلى ستينيات القرن الماضي، ليسرد حكاية الحب الأول واكتشاف طهرانيته في لذة لا تتعلق بالجسد. ليس على النحو العذري الرومانسي المثالي، لكنه مرتبط بقيم الحارة وعاداتها ونظامها الصارم، وأيضا يرتبط باتجاه بطلي الرواية لضبط العلاقة تحت سمع ونظر الأسرتين. فنشهد نمو العلاقة الحميمة والتعلق المتبادل يديره الكاتب بذكاء. نتابع خيوط الحكاية وتعقدها وانفكاكها ببساطة، وشخصيا لم تشغلني النهاية التي توقعتها إذا كان هناك من ينتظر "الزبدة" و"الخلاصة" بقدر انشغالي بأسرار إدارة دفة الحكاية، التي تعرض مناخات الحارة إبان تلك الفترة والقيم الحاكمة؛ ضابطة ومتفلتة منها، والأحداث المنسجمة مع المرحلة العمرية التي وضعها الراوي تلقاء عيني القارئ؛ تكوينا وجدانيا وثقافيا على نحو تظن فيه السهولة والمباشرة، غير أن الأمر ليس كذلك.

يتبدى الحوار مقوما رئيسا وعمادا أساسيا لا تنهض الحكاية دونه، جعله باخشوين يمضي بالعامية ذات المذاق الحافل بالطرافة وحضور البديهة وبالإشارات الحاملة إلى أبعد من الكلام بالتورية الأشبه بالهمس والتوطؤ بين اثنين. يعكس الحوار روح الحارة. كما أنه ـ إلى جانب التواصل ـ يكشف عن المواقف وما تنطوي عليه الشخصيات من نظر وقناعات ورؤية مثال الحوارات المتعددة التي أقامها الرواي مع صديقه الكاتب الذي يسبقه في العمر والتجربة؛ إن في الحياة أو الكتابة.. أو تلك الحوارات مع الأب التي تكشف عن أزمة الراوي بعد خروجه إلى الشارع ليكتشفه دون سند من الخبرة الوالدية أو الاجتماعية، أو تلك النجوى الداخلية مع خيال "سلطانة" التي تبلغ النقيضين في النعومة أو الإقذاع في اللفظ... هي مروحة حوارية تتقدم وتكشف ليس عالم الحارة وشخصياته من الخارج، لكنها تتوغل في الداخل وإلى الأعماق؛ تجلي زمنا عاما، وتاريخا شخصيا أجده في بعض مفاصله لا ينفك عن تذوق الجمال في مفهوم "القلة" ومديحه ولا عن تدبير الكتابة وشحذ شفرتها على مسن الغضب أو الخيبات أو الأحلام.