كثير من المصطلحات والمفاهيم تبدو حمالة أوجه، ويمكن الانزياح بالمصطلحات تحديدا إلى كثير من الاتجاهات والأبعاد الفكرية التي تدعم المقصد النهائي لها، ولذلك حين يتم النظر إلى العملية السياسية بمتغيراتها المعقدة والسريعة الذوبان، فإننا في الواقع نجد صعوبة في إحكام السيطرة على المصطلح السياسي؛ لأنه يبقى قابلا لتفسيره وإساءة فهمه من واقع تعارض المصالح والمصلحة العامة للبيئة السياسية التي يولد أو يتحرك فيها المصطلح، كما هو الحال مع العلمانية، فهي جديرة برفض المتشددين والمتطرفين من واقع ظاهر التفسير والمعنى الذي يفصل الدين عن الدولة، دون أن يتثبتوا من حقيقة ذلك الفصل، ولكن الفعل "فصل" في حد ذاته يثير الرعب والخوف، ومن ثم الرفض المطلق.

وذلك في السياق السياسي خطأ كامل الأركان؛ لأن العملية السياسية لا تقبل بمرفوضات كلية أو نهائية أو إلى ما لا نهاية أو بلا حدود.

تطرقت في مقالات سابقة إلى أن العلمانية مفيدة لحفظ دين الناس ومذاهبهم بعيدا عن الممارسة السياسية، وتوظيف الدين بشكل انتهازي فيها، وهي لا تتعارض أو تتضاد أو تتناقض مع الدين، وليس عيبا أن نضع الأمور على قياس "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، أي أننا في إطار طاقتنا البشرية وحياتنا الدنيوية ينبغي ألا نشوه علاقتنا بالله، والعلمانية تحفظ مقدساتنا بعيدا عن أي تشويهات محتملة جراء الممارسة السياسية الخشنة، والإساءة للدين من رجال يقومـون بأمره، أو سياسيون قد يضطرون للتضحية بالأخلاق والقيم من أجل الكسب السياسي، ولا أرى بهذه الحيثيات أي موجب لرفض العلمانية والخوف منها.

حتى تكون الأمور أكثر وضوحا، يمكن الاستدلال بتجربة الحكم في العراق، وحاجتها السياسية والتنظيمية العميقة للعلمانية؛ حتى تحافظ على ما تبقى من الوطن العراقي، وهي بحسب مقتضيات الحالة الاجتماعية والدينية والمذهبية في هذا البلد كانت وستظل الحل الفعال لأزماته والضامن الأكيد لاستقراره.

فمذهبيا يحتاج السنة إلى ضمانات بعدم إقصاء الحكومة العراقية الجديدة لهم، أي بعدما حصل الشيعة على الكتلة البرلمانية الأكبر التي أهلتهم لحكم الدولة، والشيعة عانوا الأمرّين من التضييق والخناق في فترة الرئيس السابق صدام حسين، ولا يريدون أن يكونوا في ذات التجربة مرة أخرة، والأكراد بدورهم لا يمكنهم أن يكرروا التجارب التي عاشوها مع صدام وبعده، فكيف يأتي الحل مع هذا التعقيد؟

ليس بالضرورة أن نقفز مباشرة إلى أن العلمانية هي الحل، ولكن لنتدرج في تصورات نجتهد في أن تكون منطقية بحيث تماثل الفكرة المثالية لخروج العراق من النفق الذي دخله بسبب التعقيدات السياسية والجيوبولوتيكية والديموجرافية. ومن الداخل الديني والمجتمعي في هذا البلد تبرز الفكرة كطرح بحاجة إلى الدعم، وذلك على نحو ما طرحه رجل الدين الشيعي إياد جمال الدين، عبر حسابه في موقع "تويتر" الاجتماعي بقوله: "مما لا شك فيه سيجمع العراقيون على محبتهم وإعجابهم بأعمال أهل الفن، ولكنهم سيختلفون حول الساسة ورجال الدين، الدين والسياسة فرقتهم والفن جمعهم". وفي تغريدة أخرى أشار إلى أن هناك مطالب بعلمنة الدولة بعد سقوط صدام وقال: "لقد كنت عارفا أن العراق لن يستقر إلا بنظام حكم علماني ديموقراطي. وكنت عارفا أن الإسلاميين الشيعة والسنة سيدمرون المجتمع العراقي والدولة العراقية باسم الدين والمذهب".

وللعلم، فإن جمال الدين من بيت علم في النجف، وكانت أول مساهمة سياسية له في السبعينات حين حاولت الحكومة العراقية منع الناس من السير على الأقدام لأداء شعائر كربلاء، فتمرد الناس، وهو الذي وضع أول هتاف علني ضد الحكومة "صدام قل للبكر كل الشعب لا يريدك" وكان صدام وقتها نائبا لرئيس الدولة، وتبع ذلك ممارسة سياسية كثيفة انتهت به إلى هذه الرؤية في الوطن العراقي، ولذلك ظل يدعو منذ عدة سنوات إلى تطبيقات العلمانية، غير أن دعوته لم تصل لوسائل الإعلام والفضائيات إلا في مؤتمر الناصرية، الذي عقدته المعارضة العراقية في العام 2003، بعد دخول قوات التحالف للعراق، وفيه قال بوضوح: "دفاعا عن الدين أنادي بالعلمانية، القرآن الكريم مختطف بيد الدولة الإسلامية؛ لأن الدولة هي التي تقوم بالتفسير، وعلينا تخليص الدين من براثن الدولة".

وهو ليس وحده الذي يعتقد هذا المنهج الفكري، وإنما هناك الكثير من رجال الدين يؤيدونه، وحين يصلح العراق كتطبيق نموذجي للعلمانية، فإنه حتما يتعافى من أزماته، ويستقيم ظله السياسي والاجتماعي والديني، ويمكن حينها التعامل مع العلمانية بتهذيب لائق بها؛ لأنها تحترم الدين في الواقع وتنأى به عن سوءات الممارسة السياسية.