م. عايض الميلبي


أجزم أن في قصص الآباء والأجداد عبرة وعظة، خاصة أنهم قد عاشوا في ظروف قاسية، لا يحتمل شدتها إلا رجال أولي جلد وعزيمة تتحدى عقبات وصعوبات ذلك الزمان، لم يلجوا دور التعليم، لكن الحياة علمتهم دروساً كثيرة منذ نعومة أظفارهم، ولديهم قيم وعادات سامية يحافظون عليها، ويحرصون على غرسها في نفوس أبنائهم، ومن تلك القيم الكرم والإحسان إلى الجار، والشجاعة ونحو ذلك، وكل هذه صفات تتجسد فيما سوف أوافيكم به من حكايات سمعتها شخصياً من أصحابها في طفولتي، وأولئك القائلون نفر منهم من تجاوز المئة عام في ذلك الوقت، واليوم تواريهم الأرض عنا، وبقيت سيرة حياتهم حديث من بعدهم.

أول هذه القصص تخص رجلاً عُرف بإكرام الضيف والجار منذ صغره، وفي ذاك الوقت الناس يأتون زرافات ووحدانا طلباً لما يسد جوعهم، الذي حتماً قد يودي بهم للهلاك، ويقول هذا الرجل عن نفسه إنه ذات ليلة توافد إلى مجلسه مجموعة من الضيوف، ولم يجد ما يقريهم به سوى نحر إحدى شياهه، ففعل وطبخ اللحم ثم وزعه بالتساوي على الحاضرين وأتبعه المرق دون أن يأكل منه شيئاً، وبعد أن قام بواجبه حاول الخلود إلى النوم غير أن الجوع قض مضجعه، ولم يجد في بيته طعاماً يأكله، فذهب إلى جلد الشاة الذي هو الشيء الوحيد المتبقي منها، فشواه ثم أكله وشرب قليلاً من الماء، فنام وفي الصباح سألته والدته عن مآل الجلد، فأخبرها بما كان.

ويقول أحدهم نقلاً عن أبيه، إن أباه ومعه اثنان من رفاقه كانوا في طريقهم إلى السوق لشراء بعض احتياجاتهم، بعد أن يبيعوا ما جلبوه من بضاعة، لكن قبل وصولهم وبينما هم سائرون تفاجؤوا بقطاع الطريق كامنين لهم ليلا، فبدأ إطلاق النار وبعد أن هربت هذه العصابة، وهدأ الوضع، وجد اثنان من الأصدقاء أنفسهم بجوار بعضهما، وأحدهم قد أصيب برصاصة في قدمه والدم ينزف منها، فطلب من صاحبه إشعال النار وكيها علّ الدم يتوقف، أما صاحبهما الثالث فلم يسمعوا له صوتاً، وبحثوا عنه لكنهم لم يجدوه، فسواد الليل كان يغطي كل شيء؛ وبالتالي باتوا حول المكان وفي الصباح وجودوا رفيقهما بين الحياة والموت، فقد أصيب في بطنه ولم يلبث إلا قليلاً حتى فارق الحياة، ودفنوه في المكان ذاته.

كان بودي ذكر أكثر من قصتين لكن يبدو أن مساحة المقال لا تسمح بالمزيد، على وعد أن يستمر سرد المزيد مما سُمي بـ"قصص الأولين"، التي تحمل في طياتها معاناة وأخبار جيل مضى ورحل.