في خطابه الأخير حمل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز، المجتمع الدولي مسؤولية التغاضي عن الإرهاب والصمت "غير المبرر" له إزاء "جرائم الحرب" التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة.
وبعد 25 يوماً على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، قال خادم الحرمين الشريفين: "نرى دماء أشقائنا في فلسطين تسفك في مجازر جماعية، لم تستثن أحداً، وجرائم حرب ضد الإنسانية من دون وازع إنساني أو أخلاقي، حتى أصبح للإرهاب أشكال مختلفة، سواء كان من جماعات أو منظمات أو دول وهي الأخطر بإمكانياتها ونياتها ومكائدها، كل ذلك يحدث تحت سمع وبصر المجتمع الدولي بكل مؤسساته ومنظماته بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان، هذا المجتمع الذي لزم الصمت مراقباً ما يحدث في المنطقة بأسرها، غير مكترث بما يجري، وكأنما ما يحدث أمر لا يعنيه، هذا الصمت الذي ليس له أي تبرير".
ذكّرني خطاب الملك عبدالله، أعلاه، بخطابات سابقة له قبل 14 عاماً عندما كان ولياً للعهد، وكانت خطاباته تلك في جولاته الدولية التي كان يقوم بها حينذاك، ومن ضمن ما كان يقوله: "هل تقبل أمة على وجه الأرض تؤمن بالله وبرسله أن تسكت عن حقها أو تتنازل عنه.. من يظن ذلك فهو واهم واهم واهم.. فليفعل شارون ما بدا له، فاليوم قد يكون يومه وغدا لنا إن شاء الله، وكل قطرة دم عربية سالت على أرضنا العربية المغتصبة لها جزية الدفع عند من أراقها".. "نتطلع إلى عالم أفضل تسوده لغة الحوار والتفاهم واحترام حقوق الآخرين الدينية والاجتماعية بدلا من لغة الغطرسة والقوة وعقدة التفوق كما هو حادث في منطقتنا ضد شعب أعزل".
هكذا هو عبدالله بن عبدالعزيز، أينما ذهب ورحل، أينما اتجه وحل، تظل القضية العربية الفلسطينية تشرق في قلبه وعقله معا، وهكذا هي المملكة العربية السعودية، تؤكد للعالم أجمع أنه مازال في العرب والمسلمين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لم ولن يتخلوا أبدا عن قضيتهم التي هي قضية (ضمير العالم) أيضا. فمهما كان حجم الضغوطات، ومهما بدا الليل أسود حالكا في أوله، فلا بد أن يسطع الفجر، عما قريب، بالضوء الصادق، وعما قليل ينتهي المنافقون والمرجفون في كل مكان إلى أن جميع محاولاتهم في نثر علامات التشكيك حول دور بلادنا في دعم القضية هي محض هراء، ولا يمكن لغربالها المهترىء أن يحجب شمس مواقفنا ونور إيماننا بكرامة هذه الأمة، إذ لا شيء من مغريات هذه الدنيا الفانية أو من متطلبات مصالحها يمكنه أن ينحرف بنا إلى الاستهانة بكرامتنا وقد فضلنا خالقنا العظيم على من سوانا بدين الإسلام.
في السنوات الأخيرة، لم يكن الملك عبدالله يتجول عبر العالم، للنزهة أو لتزجية الوقت هنا وهناك، بل انطلق يحمل هموم أمته ومطالبها العاجلة باسترداد حقها كاملا غير منقوص، ومشددا على ضرورة أن يكون العالم عادلا تجاه هذا الحق، يرفد الملك في ذلك إيمانه الكامل بأن الله ينصر من ينصره ويحفظ من يحفظه ووعده سبحانه الحق.
وها هو "أبو متعب" يواصل تأكيد موقف المملكة الواضح باستمرارها في نصرة قضية إخواننا الفلسطينيين دون ادعاءات ودون مزايدات ودون خوف أو رهبة من قوة عظمى أو صغرى أو بين بين، ذلك أن الله أكرمنا وشرفنا بحمل رسالة الإسلام بكل مبادئها وأخلاقياتها ونزوعها صوب العدالة والخير والسلام، وهنا تكمن قوتنا في هذا المعنى الجليل.
ليس موقفا طارئا هذا الذي يتخذه الملك عبدالله، فقد سبقته مواقف شجاعة الكل يعرفها حسيا ومعنويا. ولا يقول الملك عبدالله كلاما عابرا هنا، أو حديثا للاستهلاك الإعلامي إنما يعبر بمنتهى الوضوح والبساطة عن أننا لن نتخاذل عن المطالبة بحقوقنا وحقوق أشقائنا منتهجين الأساليب والوسائل التي أمرنا بها ربنا الكريم ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
وليس شعارا ما يقوله الملك عبدالله، بقدر ما هو فعل يضيء في داخله القول، إنه يعني جيدا ما يتكلم به وما يعلنه من ردود فعل، حيث يبدأ بحديث "العقل" المرتكز على "التحذير" لا حديث "العاطفة" القائم على "التخدير" والخطب الرنانة.
الملك عبدالله بن عبدالعزيز: لغته "الحق"، وسيفه "الصدق" وترسه "المبادئ والأخلاق الإنسانية" التي تممها خاتم الأنبياء والمرسلين وضرب ديننا الإسلامي بجذورها في عمقنا الحضاري على مر تاريخنا. بهذا التوجه الاستراتيجي الخبير يدعو الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى عالم جديد، تملأ سماءه وأرضه حمائم الرحمن بدلا من الصواريخ والرصاص، ويتكلم أهله لغة الحوار والتسامح واحترام حقوق بعضهم بعضا لا لغة العنف والدم و"العجرفة". إنه يتطلع إلى صراع من نوع آخر، صراع أخلاقي حضاري يستخدم فيه الطرفان أسلحة الحضارة لا الآلة العسكرية.
يحبنا العلي القدير ولا شك، إن شاء الله، طالما أنت بيننا وفينا ومنا ولنا... فليحرسك الحليم الودود، وليحمك من كل شر وسوء، وليملأ روحك بمزيد من النور ياسيدي، ويسدد خطاك على الخير والحق والصلاح.