كم تمر علينا من أحداث في حياتنا نجد أنفسنا فجأة في قلبها.. لم نخطط لها ولم يمر في خاطرنا أننا قادرون على الخوض فيها أو حتى الاقتراب منها، ربما بسبب الخوف أو الشك أو لانعدام الخبرة، ولكن السؤال هنا: حين يجد الجد هل نتحرك.. نتسمر.. أم نهرب؟

كبرت وكبرت في داخلي القضية الفلسطينية، أول موضوع إنشاء خطه قلمي من أعماق قلبي؛ كان عن مذبحة دير ياسين، يومها كان المطلوب في اختبار التعبير أن نكتب عن كابوس حلمنا به، وكأن المطلوب كان لقلمي أن ينطلق، يومها شعرت بأنني لأول مرة سوف أكتب عما بداخلي أنا وليس ترديد مقاطع من قطع أدبية نختار منها ونعيد صياغتها بكلمات جديدة، وأنا التي كنت أول من يخرج من قاعة الاختبار يومها كنت آخرهم... وما إن اكتشفت أن ما بداخلي يمكن أن يكون أمامي لم أتوقف.. لم أتوقف كتلميذة.. لم أتوقف كطالبة.. لم أتوقف كمعلمة، وكانت فلسطين دائماً في وجداني.. كتبت عدة مقالات عنها ولها، ومنها ما كان باللغة الإنجليزية، ولكن كنت دائماً أشعر أنني مقصرة! قول على قول ولكن أين الفعل؟! لست ناجي العلي أو محمود درويش وبالطبع لست نزار قباني، من يقرأ لي -وأعترف أنهم قلة- يركزون على كتاباتي في مجالات أخرى أكثر من حين أكتب عن فلسطين، وهذا كان دائماً واضحا من التفاعل مع المقالة حين تنشر، إنه التقصير في أسلوبي ولا ألوم أحدا غير نفسي.. وجاءتني الفرصة التي ساعدتني على أن أتصالح مع ضميري وأضيف للقول؛ عمل.

يوم السبت الماضي قررت أن أذهب للبيت الأبيض الذي طوال فترة دراستي في واشنطن مررت من أمامه الكثير من المرات ولم أعره أي اهتمام، وحين اقتربنا من الحديقة التي أمامه رأيت أناسا يتجمعون وفي أيديهم لافتات تأييد لغزة، تملكني الفضول ونزلت من السيارة وأخذت أتتبعهم حتى وجدت نفسي في قلب الحدث... بدوت كالغريبة لا تعرف ماذا تفعل أو تقول.. كنت أستمع للخطيب يتحدث للناس وهم يتفاعلون معه.. كنت ضائعة وعلى نفسي أدور وأدور وأدور! لم أكن أريد أن يفوتني شيء أمامي.. بجانبي.. خلفي... نساء ورجال، أطفال وشباب وشياب، على الأقدام وعلى الكراسي المتحركة .. أمواج وأمواج من البشر جمعتهم الإنسانية، حركتهم مأساة غزة فلبوا النداء وجاؤوا ليسمعوا العالم أصواتهم... أصواتهم؟! ولكن أين كان صوتي؟!

بدأت بالبكاء، شيء ما بداخلي تحرك ولم أكن أعرف ما هو... أين أنا من هؤلاء؟! بدأت المسيرة ووجدت نفسي أسير معهم، أتنقل من مكان إلى مكان أصور وأرسل لمن يتابعونني على "تويتر"، كأنني كنت أبحث عمن يساندني في تلك اللحظات.. ثم سقط الجدار داخل روحي ورأيت.. وشعرت أن من يساندني هم من كانوا حولي.. أصبحت جزءا منهم.. نقطة في بحر الإنسانية.. حبة رمل على هامش ضمير البشرية.. كنت صوتا وجسدا.. كنت الفعل كما كنت القول!

سرنا في الشوارع المخصصة من الدولة للمسيرة، ومررنا أمام مؤسسات الدولة والمؤسسات الإعلامية الهامة، كان صوت الجماهير يرج الشارع رجا.. شعرت به يهز كياني، يعيدني إلى تلك الطفلة التي كانت تشعر بقلة الحيلة كلما سمعت كلمة "فلسطين"، قوة عارمة استحلت كياني وأدركت حينها أن دموعي لم تكن سوى دموع امرأة عربية حرة.. كانت دموع حزن وألم كما كانت دموع فخر وسعادة... نعم هذا مكاني.. نعم هذا دوري.. وليسمع العالم صوتي وإن كان بين آلاف الأصوات من حولي.

لا تقل لي إن العرب لم يفعلوا شيئا! سمعت لهجات عربية مختلفة لم أستطع أن أعدها.. قد نكون مختلفين على قضايا عدة، ولكن في هذا اليوم اجتمعنا من أجل فلسطين المحتلة.. من أجل غزة، ولا تقولوا إن الغرب لا يبالي! وهنا أتحدث عن الشعوب لا الحكومات.. أعداد الأجانب كانت مهولة.. أحدهم كان أمامي.. عجوز يجره ابنه على الكرسي المتحرك وأنبوبة الأكسجين موصولة بأنفه! لا بل رأيت الكثير والكثير على الكراسي المتحركة، منهم أجانب وعرب.. ما رأيته من إنسانية لا يوصف، فعلا لا يوصف.. كان يومك يا غزة.. وجعك وصل ليس فقط إلى واشنطن بل للعالم كله... فتحرك وما زال يتحرك، فالمسيرات من مدريد إلى لندن إلى أقصى نقطة على هذه الأرض، الذي كنت أظن يوما أنه بارد وبعيد وجدته ينبض روحا وحياة وأقرب إلينا من قربنا لبعضنا مع الأحداث الأخيرة.. وكل ذلك من أجل أطفالك يا غزة.

إن الحياة تمنحنا الفرص لنخوضها لا أن نكون مجرد أبجدية مبعثرة على الهوامش.. فالأحداث ليست موضوع إنشاء نكتبه، الأحداث مواقف نعيشها.. إنها مسألة إرادة وقرار.