في هذا الزمن المنكوس لم يعد الجهاد سنام الدين ولكنه أصبح سنام "الحزبية" والعنصرية والخروج عن الإجماع.

صار الجهاد مناط اللعب على عواطف وغرائز الأغرار من صغار الأعمار.

صار الجهاد تكية سياسية ولعبة كيدية تآمرية تدار من أقبية المخابرات.

تخيل فقد صار الجهاد لإعلاء راية الإسلام وكلمة الله يصدر من البيت الأبيض أو ربما من الكرملين.

حدث مثل هذا أيام رونالد ريجان الذي استعذب كلمة "الجهاد" ورددها مراراً وهكذا انطلقت جحافل المجاهدين تدك جبال ووهاد أفغانستان مما أعاد أفغانستان إلى عصور الظلام بعد الدمار الذي طالها وبعد صراع الإخوة هناك وصراع العرقيات، وما أورثه ذلك من فرقة وتفكك وتخلف في أسباب المعيشة، صحية وتعليمية. هذه الحرب "الجهادية" انعكست سلبياتها شوكة في خاصرة بعض الدول التي عاد شبابها من هناك وقد تطرفوا وتشددوا وحزموا أمرهم على الجهاد في الداخل وقتل المستأمنين من الأجانب أو من رجال الأمن وتفجير المجمعات واسترخاص الدم البشري المسلم والإنساني.

صار العائدون يحتسبون الأجر بقتل إخوانهم المسلمين وتكفيرهم.

وهكذا نجحت الاستخبارات الأميركية في جرنا إلى حرب عبثية بالنيابة عنهم، ثم صناعة نجوم من غلاة المتشددين كما هو الحال مع الملا عمر، ثم الظواهري وغيرهما، وصاروا هم أهل الحل والعقد والأمر والنهي.

ولم يعد في زمن الجهاد المزور لولي الأمر أمر في هذا الشأن، بل صارت الأوامر تصدر من قادة تصنعهم المكائد والحبائل السياسية ويملؤنا العجب وتخنقنا الدهشة حين لا نرى هؤلاء المجاهدين يفخخون السيارات في تل أبيب، أو في أي مدينة إسرائيلية، ولا نراهم يتسللون إلى هناك كما يفعلون في حدودنا خروجاً ودخولاً.

كيف استطاع بوتين وقاسم سليماني كما فعل ريجان قبلهما، أن يطوع شبابنا وغيرهم وينصاعوا لأمر البغدادي الذي خرج علينا فجأة ليقود عصبة من الشباب المتطرف لحز الرؤوس وقطع الرقاب وقتل المجاميع البشرية بلا رحمة ودون أن يرف لهم جفن، ودون أن تتعطف قلوبهم لبعض استجداءات الأسرى فلا يسمعون لهم، ولا يمنحونهم حقهم الإنساني الأدنى في الأخذ والرد.

كيف استطاعت هذه الأجهزة الاستخباراتية الأميركية والروسية والإيرانية أن تربي هذه المنظمات وأن تقدم هذه الميليشيات بشكلها العنيف، وكيف انصاع هؤلاء الصغار لأكبر عملية تشويه متعمد لسماحة الإسلام؟

كيف انقادت هذه المجاميع لهذه الخدعة الكبرى، بل كيف تهيأت بعض الأبواق التي لها مرجعية علمية فقهية لتؤصل لمثل هذه الأعمال الخارجة عن الإسلام؟

والأغرب هو أن كثيراً من العلماء والمشايخ العقلاء تناسوا دورهم التثقيفي الفقهي في مثل هذه الفتن التي حيرت العقول وانغمسوا في تفقيه الناس في الأمور الصغرى التي تتكرر بلا جدوى صبح مساء:

ـ يا شيخ ماذا علي لو صليت العصر بعد المغرب لأني كنت نائماً؟

ـ يا شيخ هل علي كفارة في رمضان لو بلعت ريقي؟

ـ ما رأيك في كوني تسوكت ناسياً وأنا صائم؟

ـ يا شيخ تسحرت ثم أذن الفجر وأنا على جنابة، فهل صيامي صحيح؟

أعلم أن التفقه في الدين وأصوله أمر ضروري، لكن الأمر يقتضي على المذيع والإذاعة توجيه دفة الأسئلة إلى مثل كثير من محدثات الأمور التي تهدد الدين، والمواطن والأمن البشري.

نعم كان العلماء والمشايخ في حالة سهو وخدر، حين تجاهلوا وتكاسلوا وصمتوا عن هذه الوقائع التي تذهب العقل وتسيء للدين وكان حقيقا عليهم أن يضربوا بلسان من بيان ودليل من قرآن لكي يستعيدوا مرجعيتهم ومصداقيتهم التي اختطفها غلاة الخوارج وعملاء الاستخبارات.