بين يدي مقالتي هذه؛ أنهيت قراءة تغريدات طويلة لأحد "الداعشيين" المنشقين عنها، من الذين كانوا في عمقها، وواكبوا بداياتها، وكتب من وحي تجربته معهم، وأتبعت تلك التغريدات بقراءة مقالة الزميل جمال خاشقجي الأخيرة "لماذا غضب الملك عبدالله من العلماء"، وختمت بقراءة تحقيق طويل بعنوان: "نموذج (الدولة الإسلامية) يفجّر أسئلة المرجعية والمشروعية"، من إعداد الصديق بسام ناصر، ونشر في موقع "عربي2".
محصلة تلك القراءات توصل – بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- إلى أن فكر "داعش" الحالي؛ هو امتداد لذات فكر "أئمة الدعوة النجدية"، وأن ما يفعله اليوم "الدواعش" هو تطبيق حرفي لنصوص أئمة الدعوة، مما جعلني أحوقل وأصفق كفا بكفّ، وأقول: "حاشا لله أن تكون تلك الدعوة التجديدية التي انبثقت لتنقية العقيدة من أوشاب الشركيات، وتخاريف الطرق الصوفية، وكفريات السحرة والمشعوذين، هو ذات فكر "داعش" اليوم، وإن توسلوا بها في تبرير أعمالهم الوحشية، وساق منظروهم أقوال بعض أولئك العلماء يرحمهم الله".
في التحقيق الصحفي الآنف، ورد كلام للدكتور سلطان العميري عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى، ونقله معد التحقيق عن موقع الدكتور العميري في "فيسبوك"، وهو يطرح سؤالا مثيرا: "كيف نناقش من يربط بين الفكر "الداعشي" وبين أئمة الدعوة النجدية"؟ مضيفا: "وجمع بعضهم عددا من المسائل والقضايا التي يرى أن "الدواعش" لا يختلفون فيها عن أئمة الدعوة - كلهم أو أكثرهم-، وذكر أن علماء السلفية المعاصرين - وخاصة السعوديين- لا يمكنهم أن يجيبوا على "الفكر الداعشي" بكلام مقنع لهم، لأنهم يتفقون معهم في الأصول والمنطلقات المأخوذة من أئمة الدعوة النجدية".
وختمت تلك المشاركة بأن: "العميري لم يرتض المسارات التي سلكها عدد من طلبة العلم في الردّ على تلك الدعوى ومحاولة نقضها، مؤكدا في سياق مناقشته وتحليله وتعليله على أن "الدواعش" لا يرسلون كلامهم إرسالا، وإنما يعتمدون على نصوص وأقوال كثيرة من أقوال أئمة الدعوة النجدية وغيرهم، ويشهرونها دائما في وجه من يخالفهم، ويعلنون في الملأ أنهم ليسوا إلا أتباعا لأئمة الدعوة النجدية وعقيدتهم، ويذكرون النصوص التي اعتمدوا عليها في أقوالهم".
من واكب مرحلة ما بعد 11 سبتمبر، يتذكر تماما كيف انطلقت ذات الاتهامات والطعون في الدعوة الإصلاحية وأئمتها النجديين، من بعض آباء "العصرانية السعودية" إذ ذاك، الذين قاموا وقتها بانقلاب كامل على المنهج السلفي الذي ترعرعوا فيه، فقاموا بالتشنيع عليه بصورة قاسية، ووصموه بأنه أساس الإرهاب، والمغذي لفكر الإرهابيين، قبل أن يتفرقوا لاحقا أيدي سبأ، وينخلعوا عن العصرانية بالكامل ويعتنقوا العلمانية. بل وصلت اتهاماتهم وقتها للمناهج الدراسية، عبر ذلك البحث التاريخي الذي أعده بالكامل إبراهيم السكران – اعتذر عنه بعد سنوات- وقدمه المحامي المعروف عبدالعزيز القاسم في مؤتمر الحوار الوطني الثاني بمكة المكرمة.
بالطبع انبرى في ذلك الحين جمع من العلماء والباحثين والدعاة للرد على تلك الفرى التي تساقطت من كل حدب وصوب، وأتذكر كيف كنا في ملحق "الرسالة"، نستكتب جمعا من العلماء والباحثين والدعاة، لتفنيد تلك الأطروحات والاتهامات التي فتحت صحافتنا لأربابها صفحاتها الكاملة.
أتساءل هنا كرجل غير متخصص في الشريعة، وبطريقة عقلانية هادئة: من الذي أنكر على أولئك الخارجين من "إخوان من أطاع الله" و"الغطط" وجماعة فيصل الدويش وسلطان بن بجاد؟! أليسوا هم علماء الدعوة النجدية، وعلى رأسهم حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب سماحة المفتي الأشهر ابن إبراهيم وجمع من العلماء معه وقتها؟ من الذي ناقش الدويش وابن بجاد وأولئك الخارجين الذين كانت لهم رؤاهم القاصرة، وفندوا أقوالهم وردوا عليها؟ أليسوا أئمة الدعوة الإصلاحية؟ فلماذا يحسب الفكر على أولئك الخارجين، وليس على هؤلاء العلماء؟
عموما، من الخطل قياس فكر "إخوان من أطاع الله" اليوم على هؤلاء الدواعش، وهم الذين كانوا بدوا رحلاً، ووطّنهم الإمام عبدالعزيز، فانتقلوا من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ولم يستوعبوا مستجدات العصر، وربما كان محمد جلال كشك في كتابه الأشهر "السعوديون والحل الإسلامي" أكثر باحث قرأهم بإنصاف، وسبر غور تجربتهم بموضوعية مثلى.
أتساءل هنا: من هم الذين أنكروا على فكر القاعدة، وفندوا أصولهم وأدبياتهم في السنوات الـ14 الماضيات، أليسوا علماء الدعوة الإصلاحية ابن باز وابن عثيمين وصالح الفوزان واللحيدان وبقية علمائنا الغرر؟ وما هؤلاء إلا تلامذة أصلاء للدعوة الإصلاحية التي تتهم اليوم – عمدا أو بدون عمد- بأنها مفرخة دواعش اليوم؟
كون "الدواعش" يستشهدون ببعض أقوال أئمتنا أولئك ليس بحجة، فدونكم عبدالرحمن بن ملجم الخارجي البغيض، كان طالب علم، ووجه تلك الطعنة الغادرة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو يبرّر لجريمته الآثمة شرعا.
ربط فكر داعش بالدعوة الإصلاحية للإمام محمد بن عبدالوهاب آخذ في التزايد، وتلقفتها مراكز البحوث الغربية، وعلى الباحثين تفنيد هذه الأغلوطات قبل رواجها.