تنبعث من هذه المنطقة كل شياطين التاريخ، وتستورد من ماضيها صفحات الثأر المنسية وقصص الانتقام. كل طائفة وقومية أقلية أو أكثرية تغوص عائدة إلى جذورها مستنفرة حلفاءها الأقدمين وروابطها الجغرافية والديموجرافية والدينية. كل فرضيات التعايش وترويج الدعة وقصص التآخي والعيش المشترك أفضت إلى العدم، تستعيد تفاصيل معارك الهوية ومنازلات الشطب المريرة، كل التراكم الحضاري القيمي والإنساني يصارع في حفلة الجنون السياسي المتصلة منذ أعوام بيأس.

لا عقل قادر على فرز ما يحدث. لا ضمير يكابد لوقف هذا الدم الفياض على حواف السيوف وفوهات البنادق. الغريزيات العرقية والطائفية تنفجر في الفضاء الإلكتروني الافتراضي وعلى شاشات التلفزيون. تذوب حدود الدولة القطرية لصالح شظايا وكانتونات تتغير يوميا بحسب تغير المصالح والتوجهات وامتداد الميليشيات على شرق المتوسط الذي صدر للعالم عبر تاريخه الطويل كتالوجات الألم وقواميس القسوة.

شرق المتوسط الموعود بالصراع، المجلل بأوهام القوة وخدر الاستقرار، فيه يركض الجميع نحو الفوضى بدأب وحماس ليشتعل البحر والسهل بالضغينة، وتشيع الكراهية كشمس صيفية.

في فوضى الحواس وجنون العرقيات الجميع يشطب الجميع، الكل يلغي الكل، فيما التصفية والإقصاء يمارسان نشاطهما بحماس في هذا الليل الطويل الذي لا يبدو أنه سينجلي قريبا، تستعاد الحرب كل مرة وكأنها قدر أبدي لا خيارا معتوها لساسة، يدفع ثمنها المساكين، ويجني ثمارها العلقمية الانتهازيون.

في حروب شرق المتوسط وتصفياتها المستمرة منذ فجر الخليقة يتكرر المشهد دون أن يشعر أحد بوخز الضمير، دون أن تكون هناك نتيجة حاسمة في خزان الاثنيات والبارود. يمضي الجميع بهمة نحو الشطب. يؤصل المثقفون لهذا ويروجون له، فيما ينخرط المهووسون به ويصفق العامة، ويجد المتطرفون فرصة. شرق المتوسط، وعبر الرحالة والفاتحين والقصص والجنيات، "صندوق باندورا" و"رأس ميدوزا" و"صخرة سيزيف"، التي يحملها العالم على ظهره لتتدحرج إلى سفح اللانهاية كل بضع سنوات.