نحمد الله ونثني عليه الخير كله؛ أن اكتفى رأس حربة المحتسبين بمقاطعة بندة ـ بدل هدمها ـ منعاً للاختلاط!!، كما هو شأن حلوله الجذرية الهادمة، فقائد قوة الاحتساب غير الشرعية لا ينفكُّ يرسل قذائف ابتكارات هوس خياله الذي لا يبصر المرأة إلا منبعا للفساد ومرتعاً للإفساد، وإن تدثرت بالفضيلة، وتسربلت بالخلُق القويم!
كرّرها النبي الكريم ثلاثاً: "هلك المتنطعون" وما المتنطعون إلا أولئك المكشرون عن أنياب تطرفهم ضد مظاهر التقدم والإصلاح والحياة، ولا تراهم يكشرون عن أنياب احتسابهم مستنفرين المجتمع إلا عندما يتعلق الأمر بالمرأة، عندها تبدأ موازينهم في الاختلال، فترجف الأرض بأراجيفهم!!
وحين تكون الصنعة واحدة، ويكون الحكم عليها حكمين مختلفين لدرجة التناقض، فهذه والله لا يجيد الصدع بها إلا المتنطعون أثناء دورانهم في فلك "وليس الذكر كالأنثى" المحكوم بسقم الاستدلال.
فالرجل الكاشير= وظيفة نزيهة وشريفة، والمرأة الكاشيرة = وظيفة مهينة وحقيرة، الوظيفة واحدة، بينما الحكمان متناقضان تناقضاً يدعو للتأمل في طريقة تفكير هؤلاء، وكيفيّة استدلالاتهم؛ فالحقارة والشرف يخضعان لمقاييس خاصة عند أهل التنطّع والفقه الأحادي، ولمقياسٍ لا يقيم وزنا للمصلحة التي "حيثما تكونوا فثم شرع الله".
يأتي السؤال في إحدى قنوات الرأي الواحد مسبق الترتيب بشكل مكشوف لا ينطلي إلا على أتباع تلك القنوات ومتابعيها والمعجبين بطرحها، ليصور السائل وضع المرأة الكاشيرة بأنّه "المحزن والمخزي والممتهَن" ويختم المقطع الهزلي أو التمثيليّة التي لأجلها كان البرنامج بسؤالٍ إجابتُه فيه، فيقول: "هل تجوز مقاطعة بندة؟"، ويشكر المذيعُ المتّصلَ على غيرته على نساء الأمة!!
ويفاجئك الجواب ـ كما أراد السائلُ والمجيب والبرنامج والقناة ـ بانفجارٍ هذياني للغة مكرورة وكأن صاحبها يملك الحقيقة المُطْلَقة: "لاشك في حرمة عمل المرأة كاشيرة"، وبسبب أغرب من الحكم: "لاختلاط الرجال بالنساء"! وكأن المرأة لا تختلط وهي تشتري، إنما تختلط فقط عندما تبيع،؟! وهو حكم قطعي قائم
ـ في الأصل ـ على مسألةٍ خلافيّة.
ويكمل بأن "الأشد أنه تطبيع للمشروع التغريبي"!، مشروعٌ تغريبيٌ تصب المصلحة فيه للقضاء على بطالة المرأة!! أكرم به من تغريب!!، ثم يرمي قذيفته التقريرية كقول فصل: "إن المقاطعة من الوسائل المباحة لهجر المبتدع، والمجاهر المصر المعلن لبدعته، ومن أحدث في الدين".
وللجميع تصوّر المجاهر المصر المعلن لبدعته بمن يوفر وظيفة شريفة، ولكن باستدراك توفيرها لجنس واحد فقط "المرأة"!! لتدرك عمق مأساة الوعي المزيف للعلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة في واقعنا، ومدى استرخاصها وبيعها في سوق التبضع التجاري المأفون بفاتنة ومفتون!
وتتوالى التهم القائمة على نظرية المؤامرة، بأن مشروع الكاشيرة "مشروع منافقين وتغريبيين وبدعم أمريكي"!، مستنفراً قافلة المحتسبين التابعة له في جدة لإقامة دعاوى قضائية ضد الشركة!، وبتحدٍ يكمل: "عمل الكاشيرة لا يرضاه إلا سفلة القوم، وسنوالي الاحتساب عليه ولو كره المنافقون".
ولأن همه الوحيد قمع المرأة وحبسها، يوالي حججه الغريبة العجيبة باستنهاض حمية "المنافق" الجاهلية وغيرته الهمجية: فعمل الكاشيرة "لا يرضاه لابنته ولا لأخته"
وهو هنا لا يلوم الرجل المنافق لنفاقه فذلك آخر اهتماماته، بل يدافع عنه باعتبار تناقضه غيرة، تدفع بمشروعه الاحتسابي المسيس، ولكم أن تتخيلوا غيرة من شخص لا يتمثل الخلق في نفسه، ويفتقد النزاهة والشرف في ذاته، ولا تستغربوا دفاعهم عن هذه الأخلاق، فحضور العادات عندهم أقوى من الدين، يظهر ذلك مباشرة في حماستهم المتأسلمة، يقول: "المنافق وإن صافح المرأة وقابل المرأة يفترض أنه لا يقبلها لأخته أو ابنته"؟!! لتتضح شيزوفرينيا المتنطعين الذين يصورون غيرة المنافق الجاهلية على أنّها دليل رجولة؛ ولأجل غيرته على نسائه لا بأس بتوافر نساء يلهو بهنّ، وربما هي صور جواري المقاتل صاحب سراة العبيد والإماء التاريخية التي لا تنفك تداعب أخيلتهم بفيض جاهلي!
إصلاح ما أفسده دهر عبودية فقهٍ يحاكم النوايا ويقوم على الظنون على مر التاريخ يحتاج لتغيير جريء وسريع، والصدمة بالتغيير "كتجربة بندة" تتطلب تتالياً واستمراراً، فالتغيير والإصلاح صنوان لا يفترقان، والتغيير سبب للإصلاح وليس نتيجة له، والإصلاح يتطلب تحديد أهله وأدواته ووسائله، وتمهيد سبله وإزالة عثرات واقعه، وموضوعه بحاجة لتبنٍّ جدّي لئلا نظل نراوح في واقعٍ "لا تغيير ولا إصلاح".
إن كل مؤسسة حكومية وشركة خاصة عليها مسؤولية توفير أسباب العمل، بملامسة متطلبات المواطنين والارتفاع بها عن مستوى الحاجة والشحاذة إلى مستوى الاكتفاء الذاتي والعيش الكريم، وفي خضم دعم التوجهات التنموية لمحاربة البطالة والفقر تسهم "بندة" بالاستثمار الراقي الذي يتلمس حاجات المرأة موفّرة (2500) وظيفة، وبذات الوقت تسهم بدفع عجلة التنمية في اتجاه التغيير والإصلاح، مضيفة لجانب رفع المستوى الاقتصادي، رفع مستوى الوعي الفكري والثقافي وإحياء الثقة وإعادة بناء القيم بفتح آفاق أنسنة العلاقة بين الرجل والمرأة التي استغلت زمناً طويلاً لتسييس يضرب جذر إنسانيتها، بتهويماتٍ لا تخشى في إلغاء الإنسانية والأخوة لومة لائم.
تحية لـ"بندة" ولكل مؤسسة تأخذ في عمق استثماراتها اعتبار جانب الوعي الإنساني والفكري، وأملنا في وزير العمل الجديد دعم التجربة، وتعميمها على القطاعات الحكومية خاصة، علّنا ننجذب للعالمية ونفكك جذور التخلف العلاقاتي الذي شوهنا بخصوصية تطاولت على الإنسانية!، ودعاوى احتساب تنتصر لرأي واحد قد يكون باطلا!!