قبل أشهر صدرت رواية جديدة للروائي المصري الشاب "أحمد مراد"، ورغم نجاح "مراد" في رواياته السابقة إلا أنه انتقل في روايته الجديدة "1919" إلى تحدٍ مختلف، فقد اقتحم عن سبق إصرار وترصد مغامرة جديدة؛ ألا وهي الرواية التاريخية.

يتحدث "مراد" في روايته هذه عن مجموعة قصص إنسانية متقاطعة، ولكن بواسطة ربط أبطال روايته بشخصيات وأحداث حقيقية خلال فترة الاستعمار البريطاني لمصر، فمن شارع "وش البركة" الذي تحوّل إلى شارع نجيب الريحاني مؤخراً، إلى ميدان السيدة "زينب، إلى أن تعيش لحظات بيت زعيم الأمة "مصطفى النحاس"، وكر وفر حزب الوفد؛ تحس وكأنما تلك الشخصيات الثرية والأحداث المتلاحقة جعلتك في النهاية أكثر إدراكاً وفهماً لظروف ومسيرة أحداث تلك الفترة.

أما مواطنه الأكثر خبرة وهو "علاء الأسواني" فيعود مرة أخرى إلى التاريخ، ليقدم روايته الأخيرة "نادي السيارات"، والتي اعتمد فيها على عرض الوضع العام في مصر قبل ثورة 52، بواسطة النادي الذي أنشئ لملاك السيارات في بدايات القرن الماضي، ومن خلال صفحات الرواية الضخمة نتعرف فيها عن قرب على كبير الخدم "الكو"، الذي يجلب خدم النادي من حواري القاهرة القديمة، وتستمع لتلك المفردات الشعبية الموغلة في الخصوصية، وكأنما تحضر درساً في أربعينات القرن الماضي ولكن بشيء من الترفيه والمتعة، وفي الحقيقة أن هذه لم تكن الرواية التاريخية الأولى للأسواني فلقد سبقتها روايته الشهيرة "عمارة يعقوبيان"، التي كانت ملخصاً "بانورامياً" للتغيّر الذي طرأ على طبقات المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة، وبالطبع ليست هاتان الروايتان التاريخيتان ما صدر في الشقيقة مصر خلال الأشهر الماضية، بل صدر العديد من الروايات في هذا المجال، تغطي حقباً تاريخية عديدة، وهو ما يعد امتداداً لما كتبه "نجيب محفوظ" في رواياته التاريخية "الفرعونية" على سبيل المثال، بالإضافة إلى رواياته الأخرى التي تحوّلت مع مرور الزمن إلى شريط تاريخي يوثق الحارة المصرية الشعبية، والتحولات السياسية قبل وبعد ثورة 52، أما على المستوى العربي فمن منا يستطيع أن ينسى الروائي اللبناني باللسان الفرنسي: "أمين معلوف" الذي لا تزال رواياته التاريخية المتتالية تثبت أن التاريخ منجم لا ينضب للقصص والأحداث، وهو ما يفعله مواطنه المبدع ولكن بلغته الأم: "ربيع جابر" الحائز على جائزة البوكر العربية عن روايته التاريخية المتقنة "دروز بلغراد"، والتي قدم فيها سرداً لافتاً لقصة تهجير شباب الدوز من لبنان إلى البلقان، عبر قصة بائع بيضٍ مسيحي ساقه حظه العاثر ليكون ضمن سفينة المهجرّين رغماً عنه! دون إغفال "جورجي زيدان" المسيحي العربي الذي اعتمد في نجاحه على إعادة كتابة أحداث صدر الإسلام من جديد، ولكن بصورة روائية أدبية مختلفة.

يكاد يجمع أغلب النقاد على أن القصة التاريخية تعد من أصعب أنواع الكتابة وأكثرها جهداً، فهي لا تعتمد فقط على استحضار المكان والزمان السابقين، بل على محاولة اللعب الحذر بالأحداث، ثم إضافة شيء من خيال الكاتب، حتى وإن كان –في بعض الحالات- مختلفاً عما حدث، وهو السبب الذي يجعل بعض النقاد يرفضها، متعللين بأن ما حدث من وقائع ثابت ومنته، ولا يمكن تغييره بمجرد الخيال، فما الذي يمكن إضافته من أحداث روائية لحدث سبق وانتهي قبل سنوات أو عقود دون أن تغيّر من نهايته! والحقيقة أن هذا فهم قاصر ومعتمدٍ على جانب واحد لجوانب متعددة للرواية أو القصة التاريخية، فإحدى ميزات السرد هي القدرة على عرض الأحداث من وجهات نظر مختلفة، ومحاولة تكفيك الماضي وتفاصيله، وعرضه بقالب مختلف وجذاب، وبالطبع كل هذا يحتاج خيالاً خصباً بالإضافة إلى أن يكون الكاتب ملماً بما حدث بشكل كامل، هنا يستطيع المؤلف أن يعيد كتابة ما حدث من وجهة نظر شخصيات قصته لا من وجهة نظر كاتب تاريخي صارم ودقيق.

أما هنا في المملكة فلا تزال القصة التاريخية دون مستوى التطلعات، رغم دورها الكبير في توثيق تاريخ بلادنا، فالبعض لا يزال يربطها بالأساطير الشعبية للرائد "عبدالكريم الجيهمان"، الذي وثق شيئاً من أساطير بلادنا، ولكنها في النهاية ليست إبداعاً سردياً، بالإضافة إلى تركيز كتاب القصة والرواية على القصة الاجتماعية في أعمالهم، مما جعل التجارب المحلية في مجال القصة التاريخية قليلة جداً، لدرجة أنها تعد على أصابع اليدين، فمن "مقبول العلوي" صاحب روايتي "طنين" و"فتنة جدة"، إلى محمد صادق دياب وروايته "مقام حجاز"، ثم فقط المجموعة القصصية "الفتى الذي رأى النوم" لعدي جاسر الحربش.

لذا فالسؤال الذي يطرح نفسه اليوم لماذا لم نقتحم هذا القالب الروائي المهم؟ هل لأنه بسبب كسل وتراخي كتابنا السعوديين! كون الرواية التاريخية تحتاج الكثير من البحث والقراءة على العكس من الأنواع الأخرى المعتمدة على خيال الكتاب وخبراته فقط، أم أنه الخوف من نبش التاريخ وتقديمه بصورة أخرى غير ما كنا نعرفه عليه؟ أو الخوف من الاقتراب من تلكم الأحداث التي أضحت مقدسة أكثر مما يجب.

أكاد أجزم بأن لدينا معينا لا ينتهي من الأحداث والقصص التي يمكن أن تكون فكرة أساسية لعشرات بل مئات الروايات والقصص، من أحداث تأسيس الدولة السعودية إلى قصص بناء الدولة وتطورها المتسارع، إلى أحداث السنوات والأمراض التي مرت على أجدادنا كسنة "الجدري" وسنة "الرحمة" وسنة "الغرقة" وغيرها، المليئة بالقصص الإنسانية والحوادث التي تستحق أن تبقى للأجيال القادمة، وليس هناك أفضل أو أكثر أمانة من أن يكتبها رواية أحد أبناء هذه البلاد، فهو الأكثر قدرة على فهم ما حدث والأكثر قدرة على تفسيره، ووضعه ضمن إطاره الطبيعي.

بل لم لا تعود إلى تاريخ أعمق من ذلك، إلى ما كان يحدث بين القبائل والبلدات قبل تأسيس الدولة، فهناك الكثير مما يستحق أن يروى، وتستحق أجيالنا الشابة أن تقرأه بأسلوب جذاب يختلف عن أسلوب المقالات والكتب، التي أضحى الكثير من الشباب لا يقرؤها أبداً، مختصر الكلام أيها الأعزاء: "دعونا نقرأ تاريخنا بأعيننا".