أظهرت نتائج دراسة نشرتها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة"، أن (92%) من السعوديين يرون أن مظاهر الفساد في المملكة تتمثل في "الواسطة"، والفساد متركز أكثر في المستويات الإدارية الحكومية العليا والوسطى أكثر منه في المستويات الإدارية الدنيا.

ويرى بعض المختصين في المجالين الإداري والاجتماعي، أن "الواسطة" جزء لا يتجزأ من نسيج ثقافة المجتمع السعودي، وبالتالي فإن علاج هذه المشكلة يتمثل في توعية المجتمع بأخطار وسلبيات هذه الظاهرة، والسؤال المطروح هنا: ماذا عن الأنظمة والقوانين التي تمنع وتجرم الواسطة؟

الواسطة أو بعبارة أخرى قبول الوساطة جريمة جنائية نصّ عليها نظام مكافحة الرشوة في المملكة، وبالتالي فإن الوساطة تعد جريمة من الجرائم الجنائية التي يعاقب عليها القانون بالغرامة أو السجن أو كليهما معاً، حيث نصت المادة الرابعة من النظام على أن "كل موظف عام أخل بواجبات وظيفته بأن قام بعمل أو امتنع عن عمل من أعمال تلك الوظيفة نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة يعد في حكم المرتشي ويعاقب بالسجن لمدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد عن مائة ألف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين".

وهناك من يقول بأنه "لو فعّلت تلك المادة من نظام مكافحة الرشوة، لدخل غالبية الموظفين السجن، فمن منا لم يتعامل مع الواسطة عند مراجعته للدوائر الحكومية، كقول المسيح عليه السلام (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر)"!.

المشكلة الرئيسة لظاهرة "الواسطة"، أن هناك خللا رقابيا وإداريا في بعض الجهات الحكومية، الأمر الذي أدى إلى تجاوز الأنظمة والتعليمات بحجة المساعدة أو (الفزعة)، فكيف استطاع الموظف مخالفة القوانين دون محاسبة أو مساءلة ومن أعطاه هذه الصلاحية؟ كما أن ذلك يعد دليلاً على ضعف نظام الرقابة الداخلي، مما يعني فتح الأبواب للفساد بجميع أشكاله.

فعلى سبيل المثال عندما يتبين أن قرارات تعيين موظفين لمهام خاصة تتم عن طريق مدير شؤون الموظفين في نفس الجهة ولا يوجد من يراجع تلك القرارات أو يعتمدها سواء من داخل الجهة أو خارجها، هذه الممارسة توضح بأن هناك ضعفا في نظام الرقابة الداخلية يؤدي إلى خطر متمثل بقدرة مدير شؤون الموظفين على تعيين من يرغب لأي غرض وحجب الوظائف المتاحة أو حجزها لأشخاص معينين، وبالتالي يكون هناك ارتباط مباشر بين الموظفين المعينين على هذه الوظائف ومدير شؤون الموظفين (أقارب)، ولا يتم الإعلان عن جميع الوظائف المتاحة ويتم حجب بعضها خصوصا التي لها مزايا خاصة مثل موقع العمل أو مقدار المكافأة.

ولنأخذ مثالاً آخر أكثر وضوحاً من السابق، فيما يتعلق بمواعيد بعض المستشفيات، فقد تكون حالة المريض خطرة وحرجة ويحتاج إلى علاج عاجل، فعند دخوله المستشفى يتفاجأ بتحديد موعد للكشف عليه بعد سنتين أو ثلاثة، وذلك بحجة الازدحام وكثرة المرضى على قائمة الانتظار أو لأسباب أخرى تختلقها إدارة المستشفى، لتبدأ معاناة المريض في البحث عن "واسطة" لعلاجه، والتي تمكنه من تحديد موعد خلال أيام معدودة، فنظام الرقابة على قسم المواعيد ضعيف، فيستطيع الموظف التلاعب بإدخال وتقريب موعد من يشاء من أقاربه ومعارفه وحذف من يشاء دون رقيب.

المثالان السابقان يوضحان لنا، أن ضعف أنظمة الرقابة الداخلية يؤدي إلى شيوع الواسطة والقدرة على تجاوز الأنظمة والتعليمات دون محاسبة أو مساءلة، وعلى العكس من ذلك، فإن قوة الرقابة الداخلية تحد بشكل كبير من ظاهرة الواسطة، لأن هناك من يستطيع كشف التجاوز وفضح المتسبب في ذلك.

إن ما يضعف الثقة في الإدارة الحكومية، نهج الواسطة والمحسوبية، فالأصل في كل الأنظمة والقوانين أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، ومظاهر المحاباة والواسطة من المظاهر المقيتة في الوظيفة الحكومية، فتكون معايير الانحياز لمصلحة القبيلة أو العشيرة، أو المذهب أو الأقارب أو ذوي الولاءات الشخصية، فتصبح الجهة الحكومية كالمنزل الخاص أو جمعية أسرية أغلب موظفيها ينتمون إلى فئة معينة أو منطقة معينة، فتقدم الخدمات العامة (الحكومية) حسبما تراه هذه الفئوية لا على أساس المصلحة العامة والمصلحة الوطنية.

صحيح أن أنظمة الخدمة المدنية ولوائحها تجرم الواسطة وتستند في ذلك على نظام مكافحة الرشوة، ومع ذلك نشاهد المحاباة والتمييز عند التعيين والترقيات والحوافز والمكافآت، وفرص التدريب والابتعاث، والانتدابات الداخلية والخارجية والتنقلات والإعارة، ونشاهد التلاعب في المواعيد، وتقديم أوجه الخدمات العامة، وفي إرساء عقود المشاريع وتقديم التسهيلات.

فمواد نظام مكافحة الرشوة، تعد قواعد عامة، يستند عليها كنظام أساسي، ولكن الإشكالية تتمثل في لوائح الخدمة المدنية التي أهملت آليات تطبيق تلك القواعد في الوظيفة الحكومية.

فلائحة الواجبات الوظيفية الصادرة عن وزارة الخدمة المدنية لم تتناول لا من قريب ولا من بعيد موضوع الواسطة، كما أن نظام الخدمة المدنية تعرّض لهذه الظاهرة بشكل مقتضب في المادة 12 الفقرة د، باعتبار الوساطة من المحظورات على الموظف فقط، ولم توضح بالتفصيل ماهي الحالات التي تعتبر من قبيل الواسطة.

فعلى سبيل المثال، تتضمن بعض القوانين الدولية كيفية تعامل الموظف مع أقاربه من الدرجة الأولى وحتى الدرجة الرابعة، ومتى يفقد استقلاليته، كما أن هذه القوانين تجبر الموظف على الإفصاح عن أقاربه خشية الوقوع في أية مصالح تحوزها زوجة المسؤول الحكومي أو والداه أو أولاده أو إخوته أو أبناء إخوته وأخواته، وهكذا.

وعلى هذا الأساس، من الضروري أن تكون هناك لوائح خاصة بمكافحة الواسطة وتضارب المصالح، تصدر عن وزارة الخدمة المدنية، يطلع عليها جميع الموظفين ويتعهدون بالالتزام بها، مع وجود نماذج خاصة بالإقرارات التي تفصح عن الأقارب وتضارب المصالح، مع تفعيل أنظمة الرقابة الداخلية في هذا المجال، حينها ربما نستطيع تطبيق وتفعيل مواد نظام مكافحة الرشوة بحق المخالفين لتلك القواعد.