من المسلمات الفكرية والاجتماعية والدينية والسياسية، أن التطرف موجود في جميع أنحاء العالم، وهناك على الدوام "راديكاليون" يسعون إلى تحقيق أهدافهم عن طريق العنف والقفز على الحقائق والواقع، ولكن اللافت في التطرف الذي ينشأ في منطقتنا العربية أنه لا يكاد يهدأ أو يحقق هدفا أو يصل إلى غاية، وكأنه يشذ في السوء المتطرف عن بقية العالمين، ليظهر مزيدا من الفوضى والعشوائية، والأسوأ هو التناسل الأيديولوجي الذي لا يمكن قياسه على أي نظريات إحيائية وبيولوجية في سياق المنطق السياسي أو الثقافي.

من المؤكد أن قيمة التطرف تكمن في حيوية الإرادة الكامنة فيه، وفي بلادنا العربية تبدو تلك الإرادة حيوية للغاية، ولكن ما الذي يمكن تصور إضافته من خلال سلوك متطرف وعدائي وعنيف؟ لا شيء، كل النتائج ستكون سلبية خاصة أن المنظومة المؤسسة للفكرة أو الأفكار المتطرفة عشوائية وليس لها اتجاه منطقي، وعليه من الصعب تتبع المسار العقلاني للحركة المتطرفة، وذلك يحدث منذ نشأة تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات المتطرفة، إذ لم يكن لها من هدف عقدي أو سياسي واضح أفضل من السائد في سياسة مجتمعات المنطقة، لأنه كان دوما أمامها فرصة للاندماج في العملية السياسية، ولكنها لم تفعل لأن برامجها أحادية الاتجاه ولا تتناغم أو تنسجم مع الفكر الاجتماعي العام.

مؤخرا برز تنظيم متطرف آخر في المنطقة بأبعاد دينية أكثر إقصائية وزهوا بغرور سلطوي اكتسبه من معارك ميدانية سريعة في سورية والعراق، وهو تنظيم الدولة الإسلامية الذي لا يتعدى عمره خمس سنوات، وهو تنظيم راديكالي عدائي إقصائي يتجه في مساره السياسي نحو غاية واحدة نهائية وهي الخلافة، وفي الطريق إليها يمكن أن يعدم بدم بارد كل مخالف للرأي أو معترض على السلوكيات العدائية لأتباعه، كما يمكنه أن يكفر كل مخالف له، وأن يضع الجميع في زاوية دينية ضيقة فيما ينفرد هو بفضاء رحب يمارس فيه سلطانا متعجرفا ولا يستقيم مع سلاسة وسماحة الدين ويسره.

ولكي يبدو الأمر أكثر واقعية نشر التنظيم مؤخرا خريطة فانتازية لدولته الإسلامية التي يمكن لكل حالم بالتوسع أن يرسمها دون أن يمارس أي حد أدنى لفضيلة الفكر والتفكر في معقولية الحدود ووسائل التنظيم لتحقيقها وأدواته وعناصره في الوقت الذي يقتل فيه كل مخالف له، وإذا استمر على هذا النحو فلن يبقى للتنظيم من يحكمه سواء في خريطته الخيالية أو معسكرات الصحراء التي يخيم فيها، وليس متصورا أن يشرع تنظيم لا يملك الفكرة السياسية والعمق الديني في التفكير في حكم نصف الكرة الأرضية ليقيم دولة الخلافة، ولا حجر على الخيال بالطبع ويمكن لكل منا أن يحلم ويشطح ما شاء له، ولكن هناك حدود تصاغ من خلالها الأفكار الواقعية.

إجمالا ليس من خطر في أن يخطط تنظيم الدولة الإسلامية لدولة الخلافة، ويرسم خرائطه، وقد فعل قبله ذلك من هم أكثر قوة منه وانتهى بهم الحال إلى انهيار كامل، وذلك كما حدث مع هولاكو ونابليون وهتلر، والقاسم المشترك في كلّ هو الخيال الواسع والرغبة غير المنطقية في التوسع، والارتكاز على العامل الأيديولوجي، وهو ما يجعلنا نقتبس تلك الإشارات التاريخية في سياق استعراض خريطة الدولة الإسلامية، غير أن الخطر الحقيقي للتنظيم في قناعته الممعنة في السلبية بجدوى إنتاج الخلافة الإسلامية واستعداده لإحداث مزيد من الشغب والإلهاء غير المبرر للأمة في الحصول على حقها من الاستقرار، بعيدا عن أي أفكار متطرفة تصلب وتقتل وترمي بالرصاص وتجز الرؤوس بالسيف وتقطع الأيادي والأرجل من خلاف، تلك هي "التراجيديا" التي يمكن أن تحدث في كل مكان تستهدفه الدولة الإسلامية بتلك الصورة المتوهمة للحكم الرشيد والسلوك القويم، وهنا تكمن قمة العشوائية ورياح الشر التي تأتي وتعبر وتخلف دمارا هنا وهناك باسم الدين ثم لا نحصد سوى الخيبات والأوجاع، لأن الدين لا يمكنه أن يكون على هذا القدر من إهدار روح وحرية وحقوق وكرامة الإنسان.