وفي مقابل هذا الخوف المتوالد من ولادة جيل العنف والتطرف، يبدو الخوف المناقض من تنامي جيل جديد آخر لم يعد لديه الإيمان ولا الحماس أو الدافع الأيديولوجي للتعاطف مع قضايا أمته وعالمه الأساسية. تأملوا استنتاجات هذه القصة القصيرة: في إحدى مكتبات جدة بالأمس، تعرفت على شابين في نهايات العقد الثالث من العمر ومباشرة يفتحان معي قضايا وأسئلة حياتهما اليومية وهما يفتحان الأقواس وعلامات الاستفهام ويريدان طرحها إلى كاتب. أسئلة مثل مستقبل الوظيفة وجودة التعليم وكفاءة الخدمات العامة، هما مهندس كيميائي، والآخر معلم مدرسة ثانوية، وفوراً فتحت معهما أجواء فلسطين وموقفهما مما يحدث في غزة، باعتبار القضية هي الحدث والحديث الإخباري السائد. يجيبني المعلم ضاحكاً: الراتب لا يكفي الحاجة يا دكتور، جواب المهندس الأنيق اللامع كان لافتاً للانتباه ومثيرا للدهشة، وهنا سأحاول ربط جمله الطلابية المتناثرة التي كنت أكتب بعضها (رؤوساً) على ورقة صغيرة. (أنا لن أعيش حياتي لقضية كانت هي قضية جدي رحمه الله ومن أجلها سمى والدي (جمال) عندما كان الاسم أيقونة للقضية العربية، لدينا من قضايانا اليومية ما يشغلنا عن قضية قومية تراكمت عليها أخطاء الساسة والسياسة) ولولا أن العنوان سيلصق بي شخصيا ككاتب لوضعته جملة هذا المهندس الشاب الصارخة وهو يقول بين من يقول: (فلسطين لا تمثلني). مساء الأمس أيضاً قابلت الصديق الدكتور عبدالكريم العيدان، أستاذ علم الاجتماع وتحدثت معه عن دهشتي بهذه المحادثة، لم يكن متفاجئاً، بل فوق هذا ظل عليها يتذكر بحثاً استطلاعياً في العام الماضي لم يضع فيه أفراد العينة قضية فلسطين ضمن اهتمامات وأولويات القضايا العشر الأول، وهو كأستاذ لعلم الاجتماع لا يستغرب مثل هذه النتائج لأن المجتمعات وبتعليله تتناسى القضايا الحزينة وتستسلم للأدبيات التي تكثف الخيال حول المتاجرة بالقضية. يؤكد الدكتور أن العالم العربي سيصاب بالدهشة لو أجرى استطلاعا على موضوعي من ترتيب (فلسطين) بين قضايا الشباب، الأمر كوارثي ويحتاج إلى دراسة جادة وعميقة.