انتهت المقالة السابقة إلى عرض صورة متفائلة عن مشكلة شح التواصل برغم وفرة الاتصال التي يتمتع بها غالب الناس اليوم. الصورة كالتالي: ثورة الاتصال فاجأتنا، نحن لا نملك بعد المعرفة ولا المهارات المطلوبة للتعامل مع هذا الكم الهائل من الانفتاح على الناس. إذا كانت الحواس تعمل باستراتيجية الفرز والتصنيف ومن ثم التأليف والتركيب للألوان والأصوات فإنا حاستنا الاجتماعية الإلكترونية لا تزال غير قادرة على التعامل مع المشهد بعد. بمعنى أننا لا نزال في مرحلة الدهشة من هذا السيل الجارف من الاتصال اليومي بالناس ولا نعرف بعد كيف نجعل هذا الاتصال قناة حقيقية للتواصل مع الآخرين. هذه الصورة متفائلة لأنها تحمل داخلها فرصة التعديل والتطوير متى ما توفرت المعرفة والمهارات. هذه كانت باختصار الصورة المعروضة في المقال السابق لنطرح الآن مشاهد يفترض أن تربكها.
الصورة السابقة لا تميز بوضوح بين الفضاء العام والفضاء الخاص في التواصل. واقعيا الناس تتعامل مع الفضاءين بتوقعات وتطلعات مختلفة. الفضاء العام هو مجموعة المجالات والأنشطة التي يحضر فيها الفرد بصفته ممارسا لدور اجتماعي عام. المعلمة مثلا حين تذهب إلى عملها فهي تدخل في الفضاء العام. نلاحظ هنا أن طبيعة العمل العمومي أنه ينزع من الإنسان حق اختيار الأفراد الذين يتعامل معهم ويفرض عليه انفتاحا يتوافق مع عمله. بمعنى أن هذه المعلمة لا تملك حق اختيار من يكون ضمن طالباتها ومن لا يكون. باختصار هي لا تستطيع أن تستبعد أحد طلابها وتقطع هذه العلاقة معه بقرارها الشخصي. طبيعة وجودها في الفضاء العام تفرض عليها انفتاحا على الجميع وفق ترتيبات عمومية لم تقم هي باتخاذها. في المقابل نجد أن هذه المعلمة تستعيد سلطتها على علاقاتها حين تعود إلى فضائها الخاص. بمعنى أنها تملك حينها الحق في اعتبار فلانة من الناس صديقة خاصة، كما أنها تملك الحق والقدرة كذلك في استبعاد تلك الإنسانة من مجموعة أصدقائها، متى ما رأت أنها لم تعد تتوافر على مقومات الصداقة التي تبحث هي عنها. مقومات الصداقة هذه خاضعة بشكل كبير لإرادتها الخاصة. بناء على هذا التفريق فإن توقعاتنا من المجالين مختلفة. ما أتوقعه من الناس في المجال العام أقل بكثير مما أتوقعه في المجال الخاص. ما تتوقعه هذه المعلمة من زميلاتها في العمل هو الحد الأدنى من التعاون والاحترام، بينما تتوقع من صديقاتها الخاصات أكثر من ذلك بكثير. تتوقع منهن مشاركتها أفراحها وأحزانها وظروفها الصعبة ولحظاتها الفاخرة. إذا كان سارتر يقول "الآخرون هم الجحيم" فإن هذا ربما يعود لفقداننا الحرية في الفضاء العام في اختيار الناس الذين نتواصل معهم. في مجالنا الخاص نحاول تقليص "آخرية" الآخرين بمعنى تقريبهم أكثر من ذواتنا ليصبحوا "منا وفينا". بناء على هذه الصورة، يستمر الاعتراض، فإن ما يحصل حاليا مع ثورة الاتصالات هو شيء مشابه لما يحدث في الاتصالات التي تحملها العلاقات التقليدية، بشرط أن لا نخلط بين الفضاء العام والخاص. الارتباك يحدث حين نتوقع من الناس في الفضاء العام ما نتوقعه من الناس في الفضاء الخاص. إذن الصورة كالتالي: الناس في جهاز اتصالك الخاص، معك في "واتس آب"، في "فيسبوك"، في "تويتر".. إلخ، ينتمون ابتداء للفضاء العام وكأنهم زملاء الدراسة وزملاء العمل، طالباتك، معلماتك.. إلخ. في أحسن الأحوال أنت تختار من هؤلاء من تضمه إلى فضائك الخاص ويصبح صديقا خاصا تتوقع منه التواصل فعلا. فرصة التواصل في الفضاء العام ضعيفة لأن الناس لا تراك إلا في دورك الاجتماعي المحدود، في وظيفتك ولا تراك في صورتك الكلية. بالنسبة لطالباتك فإنت معلمة تخرج وتأتي بعدها معلمة أخرى. الطالبة التي تراك في صورتك الكلية خارج دورك كمعلمة، أي كإنسانة هي التي يمكن أن تكون صديقتك وهذه حالة نادرة ولا نتوقعها كثيرا. ينتهي الاعتراض بهذه العبارة: لم يحدث تغيير في طبيعة العلاقات ما حصل هو فقط أننا نخلط بين الفضاء العام والخاص وترتبك توقعاتنا ونشعر بفقدان التواصل.
الصورة السابقة معقولة إلى حد كبير، ولا تتعارض بشكل حاد مع التفسير المقترح في المقالة الأولى. بمعنى أنها تؤيد فكرة أن المشكلة تكمن في عدم قدرتنا على تمييز وفرز العلاقات (عامة/خاصة) مما يجعل من تركيبها والعيش فيها لاحقا أمرا ممكنا. لكن الصورة السابقة علامة على مشكلة أعمق وأكثر إرباكا وهي أنها تشير إلى تغيير يكاد يكون جوهريا في فكرة الفضاء العام والخاص من أساسها؛ بمعنى أن هذه الصورة تقول إن الاتصالات التي أجريها عبر شبكات التواصل الاجتماعي من خلال جهازي الخاص الذي أملك حق التصرف فيه بالكامل تنتمي إلى الفضاء العام وليس إلى الخاص! الاتصالات التي أقوم بها وأنا في سرير نومي وفي أكثر الأماكن خصوصية في حياتي هي سلوك عمومي! النشاطات التي تحمل أدق خصوصياتي أصبحت مجالا عاما! هذه الصورة مربكة أيضا. إما أن تكون مفاهيم المجال العام والخاص قد تغيرت مع ثورة الاتصالات الحديثة أو أننا أمام مجال جديد لم يعد عاما ولا خاصا.
المشهد المربك يمكن التعبير عنه كالتالي: الجهاز الأكثر خصوصية في حياتي، الذي يحمل صوري الخاصة ومعلوماتي الخاصة والذي أملك حق التحكم فيه بالكامل (أو هكذا أظن)، الجهاز الذي أستطيع إقفاله بخطوة واحدة أصبح البوابة اليومية التي أغادر فيها خصوصيتي وأنتقل إلى المجال العام. أصبح هذا الجهاز الخاص جدا نافذتي اليومية لفقد خصوصيتي.