نشرت "الوطن" خبراً عن قيام "نزاهة"، بمخاطبة الجهات الحكومية بضرورة تفعيل وتطبيق الفقرة (3) من البند (ثالثاً) من الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، التي تنص على "إقرار مبدأ الوضوح (الشفافية) وتعزيزه داخل مؤسسات الدولة" وذلك عن طريق "التأكيد على مسؤولي الدولة بأن الوضوح وسيلة فاعلة للوقاية من الفساد، وأن اعتماده كممارسة وتوجه أخلاقي يضفي على العمل الحكومي المصداقية والاحترام".
وقيام "نزاهة" بهذه الخطوة مهمة وجوهرية وخاصةً في ظل ضعف أو غياب "الشفافية" والوضوح في تعاملات العديد من الجهات الحكومية، حيث أشارت نتائج إحدى الدراسات الصادرة عن "جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية" إلى بلوغ مؤشر متوسط حدة شيوع ثقافة سرية واحتكار المعلومات معدل (4.294 درجات من 5 درجات)، وبلغ مؤشر متوسط حدة عدم وجود الأنظمة والتشريعات الملزمة بتعزيز تطبيق "الشفافية" معدل (4.235 درجات من 5 درجات).
والمؤشرات السابقة تدل بشكل واضح على الانخفاض الشديد في مستوى الشفافية في الجهات الحكومية، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن الكيفية والآليات المناسبة لتطبيق الشفافية في التعاملات والأنشطة الحكومية.
فنزاهة طالبت الجهات الحكومية بتطبيق الشفافية في جميع الإدارات والأقسام، وأكدت على متابعة ذلك من قبل رؤساء الجهات شخصياً، ولكن تظل المخاطبات والمكاتبات مجرد حبر على ورق!، فمن عادة البيروقراطية عدم الاكتراث لمثل هذه الخطابات، ومكانها الحفظ في أدراج المكاتب، فليس هناك قوانين أو أنظمة تلزمها بذلك، وإن وجدت فهي غير مفعلة أو ليس لها أثر قانوني في حال مخالفتها.
فإذا كانت "نزاهة" نفسها وكذلك الجهات الرقابية الأخرى تشتكي من حجب المعلومات من قبل الجهات الحكومية المشمولة برقابتهم، بالرغم من وجود الصلاحيات القانونية التي تمكن الجهات الرقابية من الحصول على المعلومات بحرية تامة!.
والغريب في هذا الموضوع، أن الجهات الرقابية نفسها، تتسم بعدم الوضوح والشفافية بالرغم من أن استراتيجياتها تنص على مبدأي المصداقية والشفافية!، ولكن ليس هناك آليات أو وسائل وقوانين تتضمن تطبيق مثل هذه المبادئ، وبالتالي فإن "فاقد الشيء لا يعطيه"، فكيف نطالب الجهات الحكومية بهذه المبادئ والجهات الرقابية لا تقوم بتطبيقها؟!.
قبل أن نتحدث عن تعزيز الشفافية، يجب في البداية أن نتعرف إلى واقع السرية واحتكار المعلومات في الجهات الحكومية، فتشخيص الداء أولاً هو السبيل إلى معرفة الدواء وعلاج المرض أو على الأقل التخفيف من حدته، والخطأ في تشخيص المشكلة يعني ضمناً الخطأ في الحلول والمعالجة، وربما زاد في تفاقم المشكلة، فنحن قد نطالب بتطبيق الشفافية، ومن جهة أخرى نسمح بالسرية والكتمان والاحتكار وحجب المعلومات.
والشفافية في المجال الإداري نوعان، الأول يتعلق بالتعامل داخل الجهة الحكومية نفسها مع الموظفين في جميع المستويات الإدارية، والثاني يتعلق بالتعاملات خارج الجهة مثل المواطنين ووسائل الإعلام والمقاولين والجهات الرقابية. ففي داخل بعض الجهات الحكومية، نجد أن المستويات العليا في الإدارة تحجب المعلومات والقرارات الإدارية عن موظفيها، فعلى سبيل المثال "البرامج والدورات التدريبية"، فليس هناك شفافية بخصوص الترشيح لهذه الدورات، تتمثل في عدم وجود نماذج بخصوص ذلك تتضمن أسباب الموافقة أو عدم الموافقة على ترشيح الموظف بشكل مفصل، والاكتفاء بأن سبب عدم الترشيح لبعض الموظفين هو أنه لا تنطبق عليهم ضوابط وأسس الترشيح، دون وجود تفصيل لهذا المبرر أو توضيح لهذه الضوابط لأنه لا توجد معايير معلنة لها في الأساس، وهذا ما يثير الكثير من التساؤلات والشكوك حول آلية الترشيح في بعض الجهات، وخاصةً إذا علمنا أن عمليات الترشيح والإعلان عن البرامج التدريبية تتم بسرية تامة، وبالتالي يقوم الرئيس أو المدير الإداري باختيار من يراه من الموظفين حسب الأهواء والمصالح الشخصية.
أما القرارات الإدارية المتعلقة بالموظفين وسير العمل، فإنها تتخذ بشكل مفاجئ ودون مشاركة من قبل الموظفين، وعند ظهور سلبيات هذه القرارات عند تطبيقها على أرض الواقع أو الاعتراض عليها، فإن الرئيس أو المدير الإداري من المستحيل أن يتراجع عن قراراته ويعترف بأخطائه، لذا تبدأ المنازعات الإدارية في مختلف المستويات.
أما فيما يتعلق بالتشريعات القانونية التي تلزم الجهات الحكومية بالإفصاح والشفافية، فإنها في الغالب يتم التحايل عليها، فعلى سبيل المثال تلزم لوائح الخدمة المدنية بتزويد الموظف بنسخة من تقويم أدائه الوظيفي للاطلاع عليه ومناقشته، فيتم تشكيل لجنة في الجهة لمراجعة بيانات تقييم أداء الموظفين، وتستمر أعمال هذه اللجنة لشهور طويلة وربما لم تجتمع أصلاً، فلا يحصل الموظف على تقييم أدائه!.
أما بخصوص الشفافية في التعامل مع الغير من خارج الجهة، فكما رأينا آنفاً كيف تحجب المعلومات عن الأجهزة الرقابية وكذلك الإعلام، فهناك احتكار شبه تام للمعلومات وليس من حق أحد الاطلاع عليها!، وتجدر الإشارة هنا إلى أن "نزاهة" طلبت في وقت سابق من الجهات الحكومية تفعيل مواد اللائحة التنفيذية لنظام المنافسات والمشتريات الحكومية والمتعلقة بنشر أسماء الشركات والمؤسسات الفائزة بالعطاءات الحكومية مع توضيح أسباب الترسية عليها واستبعاد الشركات الأخرى وذلك عن طريق الموقع الإلكتروني على شبكة الإنترنت، ولكن "لا حياة لمن تنادي"، فحتى تاريخ كتابة هذه السطور لم تستجب الكثير من الجهات الحكومية لمطالب "نزاهة" بهذا الخصوص، ليبقى السؤال: كيف نستطيع تعزيز الشفافية في الجهات الحكومية؟.
لا تستطيع "نزاهة" أن تقوم بهذا الدور وحدها، رغم أن ذلك من اختصاصاتها الرئيسة، ولكنها تستطيع أن تراجع وتقترح الأنظمة والقوانين التي تعزز الشفافية في الجهات الحكومية بالتعاون مع الجهات الرقابية ووزارة الخدمة المدنية، كما ينبغي على الجهات الرقابية أن تسارع في تطبيق مبادئ الشفافية والمصداقية والمهنية التي أعلنت عنها في استراتيجياتها، على الأقل من باب القدوة الحسنة.