شأن يمنيين كثر كنت أرنو إلى مناحة مفتوحة تجهش بالبكاء وأتحين وعداً للصراخ بصوت ضاج تتهيأ له مكبرات صوت مدوية..
فلماذا استغرقتنا لحظة أخرى للهزء بدلاً عن الصراخ وللضحك والشماتة عوضاً عن البكاء.
لماذا (كلما قلنا عساها..) عدنا للحديث عن حاجة اليمن إلى عمليات جراحية جديدة، كل واحدة منها تعالج أخطاء سابقتها..؟! ومن أين لأكثر المهارات الجراحية الإقليمية أو الدولية أن تحرز النجاح المطلوب وهي ما تبرح العمل عبر نفس الأدوات سيئة التعقيم؟!
لماذا ينسى هؤلاء الجراحون مباضعهم في أحشاء المريض لنشهد تداعيهم الإنقاذي مرة إثر أخرى؟
تنتهي المبادرة الخليجية إلى معالجات محددة فتتعقبها وثيقة ثانية تعرف فيما بعد بالآلية التنفيذية ثم وثيقة تخص مخرجات الحوار الوطني وقرارات أممية تتمخض عن استضافة اليمن في منتجعات البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة لتأتي زيارة الرئيس عبدربه منصور هادي إلى المملكة ولقاءاته بقيادتها قبيل أيام من فكرة المصالحة التي طرحها هادي تلبية لمبادرة شقيقة لم يكشف النقاب عن حيثياتها باستثناء عشر نقاط تضمنها الخطاب الرئاسي على جهة التكرار والمداراة ليس إلا.
وإلى أن يبدأ المشرط عمله من جديد نلقي نظرة عابرة على أبرز قوى الصراع المستهدفة بالمصالحة كما هي مصدر خراب اليمن في وقت معاً.
نعلم يقيناً أن للمتضررين من الثورة اليمنية (26 سبتمبر و14 أكتوبر) قضية لم تغب عن أذهانهم يوماً وحيث يمم داعيهم القتالي سبقهم هدف سياسي مضمر لم تعالجه المصالحات القديمة ولا تناولته الحوارات الوطنية "الشاملة" كما يصفونها.. هو نفس الهدف الذي قاتلوا من أجله في الماضي ويقاتلون في سبيله اليوم ومما يؤخذ عليهم التعالي على المجتمع والعزوف عن تحويل قناعاتهم إلى مشروع سياسي يغني عن لوثة السلاح..
ولو فعلوا هذا منذ المصالحات الأولى في سبعينات القرن الماضي وأسفرت عن مشاركة هؤلاء في السلطة وخروج القوات المصرية من اليمن ما احتاجوا إلى شعار يردد خلف جثامين أبناء الشعب محيلاً موت أميركا واليهود إلى مفرقعات تثير المزيد من الرمد على هواء اليمن الملبد بالبارود.
على أننا لا نسخر ولا يجب علينا ادعاء الحكمة مع فكرة الموت في مواجهة التزاماتنا الإنسانية تجاه الحياة، سواء حياتنا نحن أم حياة الشعوب الأخرى، وبصرف النظر عن مصداقية الشعار خاصة بعد معارضة الولايات المتحدة الأميركية إدراج أنصار الله على لائحة الجماعات المتطرفة، وإعلان الجماعة التزامها بدعوة مجلس الأمن لوقف القتال في محافظة عمران فيما كان واجبها الوطني يقتضي الالتزام بتوجيهات رئيس الجمهورية وتحاشي التناقض مع مضمون الصرخة والحرج من تعارض يشي بإضمارات عديدة لا يوجد مبرر مقبول لمواراتها عن الشعب و(مثلاً)..
الملكية نظام حكم يسود بلدان عديدة في عالمنا المعاصر من السعودية والأردن حتى الدنمارك وبريطانيا وثمة جمهوريات عادت على أعقابها إلى الحكم الملكي.. وفي اليمن – تحديداً – لم يثر الشعب يوماً على هوية النظام السياسي ولكن على استبداد الحاكم والسلالة ولا هوتياتهما الحمائية باسم الدين.. كما هو حال الصراع الناشب اليوم بين تيار (الخلافة الإسلامية) في التجمع اليمني للإصلاح وأصحاب الحق الإلهي (الإمامة) من جماعة أنصار الله الحوثية.
لكنهما – (الإمامة) و (الخلافة) – لم يقدما شيئاً يفيد الحياة قدر التقائهما معاً حول هدف مشترك يرمي لإسقاط الدولة الوطنية وتكريس القيم المتخلفة وإحلالها بدلاً عن أي نظام حكم ديموقراطي عادل يتوافق الشعب على هويته السياسية ومحدداته الدستورية.
استقطبت الحركة الحوثية قطاعاً لا بأس به من ضحايا استبداد النظام السابق بتحالفاته الإخوانية والقبلية وأفادت من غطرسة الإخوان في ساحات التغيير وفسادهم المروع في حكومة الوفاق وتواصي بعض رموز الحركة على تقديم نموذج لم يكن متوقعاً من حيث المصداقية وقبول الآخر واختيار أفضل القدرات السياسية لتمثيلها في الحوار الوطني ولجنة صياغة الدستور، وساعدها الحظ بالحرمان من الشراكة في ترعة الفساد التوافقي! لكن – قاداتها – ظلوا عالقين في المنطقة الرمادية الملتبسة بشعار الموت الذي يصبغ على الجماعة طابع الكيان المسلح الأقرب لمنطق التمرد على حساب الفكرة المغيّبة والمشروع السياسي السلمي بجذوره القديمة أو بمؤثراته الإقليمية المهووسة بمحاكاة (حزب الله) اللبناني والانخراط غير الحصيف في المشروع الإيراني البعيد عن خصائص وظروف اليمن ودول الجزيرة العربية..
لا ريب أن فشلهم في تسويق الهدف المضمر عبر برنامج نضالي سلمي وتقاعسهم عن طرح منطلقاتهم السياسية على شركاء الصراع انطلاقاً من السقف المفتوح لمرحلة الحوار الوطني يعادل فشل النظام الجمهوري عن تحقيق دولة المواطنة وتجسيد أهدافه المعلنة.
أواصل لاحقاً..