قابلت الشاعر محمد علي السنوسي رحمه الله قبل سنوات طويلة، حين جاء من جازان لإحياء أمسية شعرية في أبها، وكم بكى وأبكى الكثير في ذلك المساء الشتوي وهو يلقي قصيدة الرسالة والرسول: من الجزيرة من أرضي ومن بلدي تألق النور نور الحق والرشدِ ويختم مقطعها الأول بقوله: فليت قومي وقد هبت رياحهمو لا يغفلون عن القناصة الجددِ، اقتربت منه كي أعبر له عن إعجابي برحلته الشعرية بالغة الكثافة والانثيال الفائق من خلال كلاسيكيته الحديثة، كان يتفرس وجهي بصعوبة يتعرف على ملامحي لكونه مصاباً بداء الماء الأزرق مما أضعف بصره، وجعله يبث طبيب العيون لواعجه المضنية فيقول: يا طبيب العيون شكوى عيوني من لحاظ حورية التكوينِ. فترفق بها ففي نونها المكنون أسرار عالم مكنونِ. ويختمها بتوسل روحي ووجداني: يا إلهي أسلمت للطب عيني ولأنت الطبيب فألطف بعيني، لم أعرف كيف أبدأ الحديث مع ذلك العملاق الشعري في ذلك المساء الفندقي، وكان الحديث يدور عن ظاهرة (الحريد) في جزيرة فرسان وهل هو انتحار جماعي للأسماك كما يتخيلها البعض. ضحك للسؤال وقال: لم أفكر في ذلك من قبل. ولكن كلمة الحريد في اللغة تعني أشياء ومعاني كثيرة ومنها الغضب والسمك المقدد يطلق عليه حراد وحرداء كما جاءت في المعاجم، لذا قد يكون السمك في حالة غضب من أفعال البشر، وما يفعلونه من تلويث وإساءة وحروب وتدمير في قاع البحار والمحيطات فجاء ليحتج على ذلك في جزيرة فرسان قالها وهو يضحك حتى سقطت نظارته. لقد أسعدني الوفاء الذي نهض به نادي جازان الأدبي. حين أعاد طبع أعماله الشعرية الكاملة، في طباعة أنيقة ومتميزة ومقدمة تنم عن وعي شعري ومعرفي للأديب عمر طاهر زيلع. اكتسبت عمقها من إدراك حميم ومخالطة ومعايشة أفضت به إلى سبر عوالمه وخطابه الشعري كواحد من أعظم شعراء عصرنا، لمستُ في شاعرنا بساطه ورقة وعذوبة ورؤية إنسانية شديدة الوضوح، حتى وهو في أشد حالات الغضب والرفض للشعر (الحر) يتسرب كما قطرة الندى تتسرب: لا العود عودي ولا الأوتار أوتاري ولا أغاريدكم من شدو أطياري. من أين جئتم بهذا (الطير) ويحكمو؟! لا الريش ريشي ولا المنقار منقاري. إني أرى في جناحية وسحنته سمات (اليوت) لا سيماء (بشارِ) قصيدة النثر مثل المشي جامدة والشعر كالرقص في ترنيم قيثارِ. إن كان لا بد من فن نجدده فجددوا في مضامين وأفكارِ.