رفقا أيها الأصدقاء فليست لي القدرة على إقناعكم دفعة واحدة بأنني منهك القوى، ومنتهك الخاطر حتى النخاع.. ومهلا أيتها الراحلة للغياب الأخير، فثمة وقت كافٍ للنسيان، وثمة غبار وعشب نابت بحديقة منزلي، وهأنذا أدون بالأوراق عبارات بلهاء، أتخلص منها لأنها تفرض نفسها على رأسي بإلحاح كالمطرقة، أكتبها لأنساها وأتخلص من معانيها الموجعة.
أكتب فيما أكتب عن زمن هو الأسوأ، والأجمل بذات الوقت، لأنه الزمن الوحيد المتاح، أكتب عن تفاصيل لا تعني غيري، وأردد بقرارة نفسي: إنها النهاية على ما يبدو.. نهاية ماذا؟ لا أعرف.. لكنها على الأقل نهاية دون نقطة آخر السطر.
أقتحم بنزق الدائرة المفرغة من جديد، وها هي المدينة التي تسكنني تدق في جمجمتي بسكانها، وشوارعها، بكل ما فيها من صخب وجنون ووأد للمشاعر الرقيقة، فأين أنتِ الآن وسط هذا الزحام، أين وجهك المتعب من لعنة الانتظار، أين أناملك التي داعبت حزني الضاحك .. وأين أنا من كل ذلك؟
ما أعرفه الآن أني هنا، أحشر جسدي بين ملايين الرجال والنساء، أُقحم كلماتي عُنوة في رؤوس من لا يفهمونها ولا يريدون ذلك، أصغي لأنشودة كنا نعشقها كثيرًا، وأسخر من نفسي حين أذّكركم: كنت وما زلت فاشلاً في التعبير عما أريده، وما تريدونه.
أتخيل أحيانًا العمر كما لو كان زُقاقًا طويلاً معتمًا، فكرة مؤلمة فعلا، لكني أتقبلها لأني اخترتها شأن أشياء كثيرة دون فرصة للتفكير، ألتف حول نفسي ليلاً، أتحسس ضياعي، تراكم الوقت المُهدر حولي، أبكي, ما المانع في ذلك؟ أبكي لأن البكاء حالة إنسانية نبيلة.
ثمّة ما يجعلني استمتع بالخسائر لأنهم أقنعوني أن الخسارة قدري المحتوم، فأبيع كل شيء لأول من يطرق بابي، أبيع لأني لم تعد لديّ رغبة بالاقتناء، وها هي الخسائر تتعاقب واحدة تلو الأخرى، وتتوالى دون اعتراض أو مجرد الإحساس بالافتقاد، حتى صارت حياتي سلسلة خرافية من الخسائر، فثمة من زرع في أعماق روحي ذلك الشعور الذي لم تعرفه اللغة بعد، ولم تلتقطه المعاجم من قبل، إنه المجهول الذي أشعر به حين تنوهين بإشارة لرحيلك.
"الصحوة ؟.. حسناً سأصحو"، هذا ما يقوله صديقي الشاعر المُفلس دائمًا، حسنًا سأصحو لكني أريد قهوة بلون فتاة كوبية، وسيجارة بذات نشوة السيجارة الأولى ذات مراهقة ولت، وأريد صباحاً كالذي ولدت فيه فيروز، ومدينة تتسع لمفهوم الصحوة، ومدرستي القديمة، ومُعلم الرياضيات المحشو بالأرقام والمعادلات.. ووجه أبي الذي اختطفه الموت فجأة قبل أن يقف بظهري ليلة عرسي، ويساندني في المحن التي حاصرتني كثيرًا، حتى إخوتي الذين لا يشبهونني في أي شيء.. وأناشد ذاكرتي أن تغفو قليلاً.
رفقا أحبتي فمازلت طفلاً يتعثر بالحروف، ويتعلم القراءة والكتابة، ليقرأ لأمه رسائل زوجها الميت، وأولادها المنفيين بشتى أصقاع الأرض، وليكتب لها رسائلها: "زوجي العزيز، كيف حالك؟ ومتى ستعود؟ قاتل الله السياسة، أشجار النخيل والبرتقال أهم من جميع دول العالم، على الأقل فالأشجار لا تطعن في الظهر، الأولاد كبروا كثيراً، وأنا قليلاً".
مهلا أيها الشعراء، لقد أثقلتم العالم بعباراتكم المبهمة ولغتكم المراوغة، وأرجوكم أبلغوا أمي أن زوجها مات مغدورًا، وأنهم دسوا له السم في قهوته، قولوا لها إني تعلمت القراءة والكتابة جيدًا، لكني فقدت القدرة على كتابة الرسائل، لأني فقدت القدرة على الحب أو الكراهية، فقدت ممارسة ترف المشاعر، وصرت كائنًا من السيلكون.
قولوا لها: قاتل الله السياسة، أفسدت أرواحنا وسحقت إنسانيتنا، وجعلتنا "إخوة أعداء" نتبارى في طعن بعضنا بعضا.