على مبعدةٍ من الزمن؛ على مقربةٍ من الروح.. تقيمُ قصص محمد أحمد عسيري في مجموعته الثانية "رقصة الغجر" (دار الفارابي، بيروت ـ 2014) ولعلّ في بعضِ تقديمه الموجز ما يشي بذلك "... ولكنني تمسّكتُ بالحكايات التي لم تغادرني.. تلك الحكايات المشتعلة من جذوة الذاكرة والأمس لأرويها لكم". تترحّلُ الذاكرة تستقصي وجوهاً منقوعة في الأسى، وسمتها الظروف بالأشدّ منها؛ عذاباً ومعاناةً وشقاءً. وعلى ضوء الحنين يستدرجُ عسيري حكاياتِهِ ويصبُّها في نايِ اللغةِ أغنيةً أو جمرةً؛ ينهضُ معها غافي الشجن على الصُّوَر الغاربة تأتي لامعةً في ما يشبهُ الدمعَ لأنّ الغائبَ لا يعودُ ولا يحفرُ أثرَه إلا بمثل هذه الزلزلة.
مزاج غلاب من الشجن يصحبُ "رقصة الغجر". ينتقي عسيري لحظةً طافيةً في مجرى الزمن، يسحبُها بتؤدةٍ محتفظاً بزخمها اللحظي ويهيلُ عليها من حنينِهِ ويصعّدُها تبرُقُ وحدَها؛ تؤشّر على زمنِها وتمنحُ الغيابَ جِدّةً تعصَى على الأفول وتزنّرُ الغائبَ بهالةٍ ترفعُهُ إلى سدّةِ الحضور أبداً مثل تلك "اللقطة الخلفية" للراحل محمد صادق دياب التي تمثُلُ صورةً وقراءةً. الصورة التقطتها الابنة لوالدها في مرضه الأخير ورحلته الأخيرة إلى لندن وفيها إشارة عفويّة للانصراف الوشيك عن العالم، وفيها الالتفاتة التي قبض عليها الكاتب يقرأُ فيها المشهد ويتسلّل بالعفويّةِ نفسِها إلى إشارات الغياب تنبعثُ من الداخل: "في تلك اللقطة الخلفية غابَ المشهدُ الأخير قبلَ أن تتلوّن الصورة بكامل تفاصيلِها. ضلّت الشمسُ طريقها ولم تصافح وجهَ السماء كعادتها. تلعثم الراوي وسقط بطل حكايته. لم يستدرج الجمهور، ولم يهتف باسمه (...) خرج وحيداً من زوايا الصورة وظلت فقط مجرد لقطة خلفية".
يسجل عسيري الغياب، وفي الوقت نفسه يسعى إلى تخليص هذا الغياب من سُجُف الزمن. يطوي المدينة خلفَه ويعود إلى زمن القرية وأبطالِها المنسيين الملتصقين بالأرض وحقولها؛ الذائبين في تجاعيدها. لا أحد يذكرهم إلا ظلاً عابراً سرقتهُ الشمس، وبقي ضَوْع الحكاية ينشرُ خيوطَهُ خيمةً تظلّلُ الذكرى حتّى تصلَ إلينا طازجةً نديّة يلهبُها قصبُ الحنين؛ تشعُّ وتكبرُ فتثمل الهواء بسيرة الوجع، وما أكثره عند عسيري حين توقف كاشفاً عن "أوجاع علي أمقاسم". هذا المطعون بأزيد من غيابٍ ورحيل وتشبث بمزرعته كراهب متبتل يشرفُ على الغيابِ ولا يبالي. ذلك أن قدميه متجذرتان في الأرضِ وزمنِها وإن كانَ مفروكاً بالفقر ورحيلِ الأحباب. بيدِه ريحانةٌ تقربه إلى من غادر، وهو على دربِهم يمضي نحوَ الرائحةِ التي لم تخذلْهُ يوماً: "... وها أنا اليوم أستقبل نهاراً قد يكونُ الأخير. ما أصعبَ أن تودّعَ كل الأصوات التي كانت تسامرك، وتغنّي معك، وتناديك عندما تبتعد لتعود من غيابِك. تدفنهم بيديك، ومن ثمّ تدير ظهرك عنهم وكأنّهم لا يعنون لك.. إنها حياتنا نشمُّ فيها اقتراب الموت كما نشمّ المطر".
الإمعان في تقصّي الغائبين هو إمعان في تقصّي الأثر؛ سؤال عن الحضور القصير وعن شمعته بعمرها الذي سرعان ما يذبل؛ فتذهب إلى الانطفاء شأن تلك الـ"قطرة" التي لا تعرف كيف تكوّنت ولا إلى أين تسقط. وجود معلّق. التصاق خفيف. عازل الزجّاج الشفاف لا يمنع من مباشرة الحياة والفرجة على لحظاتها البرقيّة المشحونة بالطبيعة والناس وما تنثره من دهشةٍ تطيل عمر القطرة في الغفلة عمّا يأتي من تصاريف تأخذ المشهد بلاعبيه ومتفرّجيه. هي لحظة هاربة مستقطعةٌ من نهر لا يتلبّثُ ولا يسأل. يمضي وفي ركابِه ممحاة هائلة لا تبقي ولا تذر: "ولكنّ الأشياءَ الجميلة لا تدومُ طويلاً، تأكدت من ذلك عندما شاهدت الأفق يرتفع ببطء. عرفت حينها أني أنزلق نحو الأسفل. انزلاق لا صوت له.. لا يشعر به غير الزجاج الذي يقف عاجزاً وأنا أرسم فوق جسده خطاً بارداً كأثر دودة فوق الرمل (...) لا أحد ينتبه لبقايا أجسادنا فوق الزجاج الأملس. وحده الرجل المسن الذي يأتي كل صباح ليزيلَنا بقطعة قماش جافة ويمضي".
* كاتب سعودي