"تيرمومتر" الدولة في النظم السياسية الحديثة يقوم على الأسس والمرتكزات ذاتها التي تشكل الدولة الوطنية، وبحسب ذلك فإن الحدود السياسية النظرية وحتى التطبيقية لا تغادر الشروط والمعايير والقواسم المشتركة التقليدية، حتى وإن تطورت الدولة واكتسبت أبعادا حداثية، لأننا دون تلك المعايير نجد أنفسنا أمام فسيفساء وطنية تضرب جميع قارات العالم، ونفقد أي انفتاح للقواسم المشتركة التي ينبغي أن تعمل على قوة وتماسك الدولة الوطنية.
تضييق القواسم المشتركة في الدولة الوطنية الحديثة يعني إضعافها أمام تحدياتها وعوامل بقائها، فهناك دول انقرضت، ومجتمعات بادت، ولغات تلاشت بسبب ذلك، ولذلك فإننا أمام فكرة الدولة الوطنية نظل بحاجة إلى المحافظة على فكرة أخرى متلازمة وهي القومية، التي تعتبر آخر أكبر القواسم المشتركة في الدولة الوطنية الحديثة، وهي التي تبقي بشكل أو بآخر على المظهر الوحدوي للدول الأوروبية التي تنضوي تحت الاتحاد الأوروبي، وهذه القومية يمكن أن تكون واقعية وحقيقية ولا تحتاج إلى وسائل ضغط لإبراز نفسها أو السعي للسيطرة والنفوذ على غيرها، أو تكون متطرفة يجعلها مهددة بالانهيار والانقراض، كما انهارت في التاريخ أقوام الكلت أو السلت وبعد ذلك الجنس الآري.
وليس بالضرورة أن ننظر إلى الاتحاد الأوروبي كقومية نموذجية في صناعة الدولة الوطنية، وإنما هناك في الواقع نماذج أخرى كثيرة على مستوى العالم، في الهند والصين وروسيا، وحتى إيران، ولدينا القومية العربية التي نتوقف عندها للنظر في فرص وإمكانية الاعتماد عليها في بناء الدولة الوطنية، فهذه القومية رغم قواسم العرق واللغة والثقافة والتاريخ المشترك، لا تزال غير مؤمنة بشكل جدي بأهمية تأسيس واقع قومي يستوعب طموحات وأشواق الجماهير العربية التي تحتاج إلى الغطاء القومي الذي يميل إلى العاطفة لإنتاج وتفاعل جميع العرب مع قضاياهم المصيرية، وذلك بالتأكيد لن يتم إلا في إطار صيغة وحدوية أرقى وأكثر تطورا من فكرة الجامعة العربية وحتى مجلس التعاون أو الاتحاد المغاربي أو وادي النيل.
يمكن للقومية بفعل الحافز الغريزي للتطور ومواجهة التحديات بصورة علمية ومنهجية، أن تؤسس لدولة وطنية حديثة ومتطورة وقوية بإنسانها، ولكن ذلك يتطلب الإيفاء ببعض الشروط الوطنية، وأول ذلك الكف عن تسطيح الجماهير وتغييب وعيهم وتشتيت انتباههم، فالقومية معنية بوعي كامل يضع المصلحة الوطنية والاجتماعية العليا فوق مصالح الأفراد والجماعات المكونة للنسيج الكلي للدولة والوطن، ولذلك فإن الدولة أو السلطة مطالبة بممارسة انفتاح "جلاسنوست" وطني يراعي الاتجاهات القيمية والفكرية للجماهير، ومساعدتها في تلبية طموحاتها بشفافية ونزاهة، لأن القومية بمثابة مارد يمكن أن ينتفض في أي وقت سياسي أو مرحلة سياسية أو اجتماعية أو وطنية، وقد تكون خارج الحسبان، ولمن يناظر الربيع العربي، فإنه يخطئ إذا وضع ذلك كتطبيق مصغر للقومية العربية.
لا يمكن تكييف القومية على "الربيع العربي"؛ لأن تلك حالات مخصوصة وعابرة في المسار التاريخي، بغض النظر عن الفاعل الرئيسي فيها، وإنما هي حالة اشتعال وانفجار واسعة تعم المنطقة العربية لتضع بعض السلطات السياسية على خيار الوفاء باستحقاقات الجماهير أو ممارسة العملية السياسية بمعزل عنها، ذلك قد يحدث بعد عام أو عامين أو عشرة، ولكنه لن يتأخر لأن إعادة تشكيل العقل السياسي واستعادة الوعي الجماهيري إنما هي عملية انطلقت بتاريخ الربيع العربي، وقد يكون ذلك من قبيل "رب رمية من غير رام"، ولكن المحصلة أن القومية في الطريق إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة على المسار الذي تختطه الجماهير والأجيال المعاصرة، وهي دولة أكثر فاعلية رغم مظاهر الاضطراب والارتباك التي قد تسودها وتضعفها في بداية أمرها، إلا أنها أكثر وضوحا في أهدافها، إنها في الواقع ارتداد فكري لأجيال ترفض كثيرا من سلوكيات الماضي، تماما كما كان الارتداد المصري والعربي على هولاكو، وبعده انكسر حاجز الخوف والرهبة من التغيير، وثبت أن القومية يمكن أن تمنح الدولة طاقة مضاعفة في البناء وصناعة المستقبل.