في خريف عام 2006م صُدم المعلم الشاب "ديفيد ميناشي" بتشخيص إصابته بأحد أنواع سرطان الدماغ، إذ كانت الصور المقطعية تشير إلى وجود ورمٍ بحجم الليمونة في الفص الأيمن من دماغه، لم تكن هذه هي الأخبار السيئة وحسب، بل إن الأطباء أكدوا له أنه في المرحلة الرابعة من السرطان، وأنهم لا يتوقعون له أن يعيش سوى بضعة أشهر قليلة!
كان "ديفيد" للتو احتفل بمرور عشر سنوات على التحاقه بسلك التعليم في مدراس التعليم العام في ولاية فلوريدا الأميركية – مسقط رأسه- وكان من المخلصين القلّة، الذين يعملون ليل نهار مع طلابهم، ويحظى بعلاقة خاصة مع الكثيرين منهم، خصوصاً مع التراجع المستمر لمخصصات التعليم في المدارس العامة، وانتشار المخدرات والعنف في تلك المدارس المهملة، لكنه لم يكن ييأس أبداً من العمل والاقتراب من طلابه، ومساعدتهم على تخطي تقليات وصراعات حياتهم الخاصة. كان وقع خبر السرطان شديداً عليه وعلى طلابه، لكنه بعد أن استوعب الخبر وتداعياته، اتخذ قراره الجريء بمواجهة هذا التهديد المخيف، ذلك أنه كان دائماً ما يشجّع طلابه على مواجهة ظروفهم والعمل على تحديد أولوياتهم، ثم الاجتهاد لتحقيقها مهما كلّف الأمر من تضحيات.
خضع "ديفيد" بعد ذلك لثلاث علميات جراحية خطيرة، وإلى سنتين ونصف من العلاج الكيماوي المركز، وإلى ثلاثين جلسة علاج بالإشعاع، ليعود بعد ذلك إلى مدرسته معلماً من جديد! ويعمل ست سنوات متوالية، حتى العام 2012م حينما أصيب بنوبة صرع، أدت إلى تقلّص الرؤية المحيطية في كلا عينيه، وإلى تراجع قدرته على الحركة أيضاً، مما اضطره للابتعاد عن شغف حياته، أو "التربية والتعليم" بلغة أخرى، لكنه في حقيقة الأمر لم يبتعد عن طلابه!
قرر "ديفيد" محاولة الاتصال ببعض الطلاب الذين سبق أن درّسهم خلال سنواته الخمس عشرة الماضية، والذين يقدر عددهم بثلاثة آلاف طالب وطالبة، أملاً بتحويل الحياة نفسها إلى صف دراسي متواصل، وحالماً برؤية ما حققه هؤلاء في حياتهم: إذ قام بكتابة أمنيته الجريئة على صفحته الشخصية في "فيسبوك"، وعلى الفور وخلال ثلاثة أيام وصله 73 عرضاً من أصدقائه وطلابه القدامى من كافة ولايات أميركا! وهكذا في 2 نوفمبر 2012 غادر "دايفيد" مدينة ميامي، وهو يحمل قائمة تحتوي على 150 مرشداً من طلابه السابقين المنتشرين في أغلب الولايات والمدن، وقام بتصوير وتوثيق رحلته رغم صعوبة ذلك عليه، والتي استكملها مرة أخرى في فبراير من العام الذي يليه، وهكذا من نيويورك إلى سان فرانسيسكو، ومن شيكاجو إلى ميامي، استطاع هذا المعلم الذي تراجع بصره إلى الوراء وتثاقلت خطواته قطع عشرة آلالف كلم، وأن يزور 31 مدينة كبيرة وصغيرة، خلال 101 يوم فقط.
لم تكن فكرة "دايفيد" تهدف لزيارة الأماكن التي لم يسبق له زيارتها فقط؛ بل محاولة التأكد من تحقيق طلابه لقائمة أولوياتهم، التي كانت هي أول أولوياته حينما كان يدرسهم، بعد أسابيع قليلة استطاع المعلم الذي يصارع الموت يومياً إصدار سيرته الذاتية، والتي أطلق عليها: "قائمة الأولويات: البحث النهائي لمدرس لاكتشاف أعظم دروس الحياة"، الصادر عن دار "توتشستون" الأميركية قبل أسابيع قليلة، هذا العنوان -المتوافر في موقع "أمازون"- استوحي من واقع تمرين اعتاد "ديفيد" القيام به مع كل طالب ثانوية درّسه، حينما كان يكلف طلابه بواجب منزلي بعد مطالعة مسرحية "عطيل" لويلم شكسبير، وذلك بترتيب أولويات قيم شخصيات المسرحية من وجهة نظر الطالب، والهدف كان محاولة فهم دوافع الخير والشر، وإعادة ترتيب قيم كالشرف والاحترام والحب والمغامرة بما يجب أن تكون عليه هذه القيم في الحياة الواقعية، ثم الانطلاق بأسلوب الأولويات هذا لتحديد أولويات الطالب نفسه، ثم التفكير بخطة عمل يستطيع من خلالها الوصول إلى مبتغاه.
هل استطاع "ديفيد ميناشي" التأثير على طلابه وطالباته؟ وهل استطاع تحويل قائمة أولوياتهم إلى إنجازات يمكن أن يراها هذا المعلم الملهم؟ هذا ما تحاول هذه السيرة المختلفة الإجابة عنه، وقد تحوّلت من مجرد سيرة معلم إلى سيرة مرب ومرشد، إلى سيرة رجل وهب نفسه وحياته لتقديم كل شيء، حتى الرمق الأخير من حياته، أوليس المعلم هو أسمى وأرفع من يعمل في أي مجتمع، بالتأكيد هذا ما فعله "ديفيد"، ويفعله يومياً آلاف المعلمين والمعلمات حول العالم.