كثيراً ما نتحدث عن قيام مقاولي المشاريع الحكومية بالتنازل من الباطن لمقاولين آخرين، وذلك لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح، مما يتسبب في تعثر الكثير من المشاريع، وعلى هذا الأساس طالب مختصون في مجال المقاولات بضرورة تقنين عمل مقاولي الباطن في المشاريع الكبيرة وفقاً لأنظمة الإدارة الحديثة، بحيث يتم تقسيم المشروع إلى عدة أجزاء يتولى مهام العمل فيها مقاولون من الباطن مصنفون في مجال العمل ويتولى فيه المقاول الرئيسي عمليات الإشراف على المشروع وإنجاز الأعمال الفنية.

وهناك من المختصين من أرجع أسباب مشكلة مقاولي الباطن إلى نظام المنافسات والمشتريات الحكومية، وقد اقترح مجلس الشورى في إحدى جلساته إدخال تعديل على المادة الحادية والسبعين من النظام، التي تنظم عملية تنازل المقاولين عن عقودهم كلياً أو جزئياً، وذلك بإضافة شرطين على نص المادة المذكورة، هما: 1-اشتراط توفر التصنيف والتأهيل والقدرة المالية والفنية للمتنازل إليه المطبقة على المصرح لهم بالعمل، 2- ألا تتجاوز نسبة الأعمال المتنازل عنها عن الثلاثين في المائة من العقد الأصلي، وهناك آخرون اقترحوا حظر ومنع التنازل بجميع أشكاله في المشاريع الحكومية.

والحقيقة أن هناك خلطا ما بين التنازل الكلي والتنازل الجزئي في العقود الإدارية، فالتنازل الكلي يتنازل فيه المقاول الرئيسي بكامل المشروع إلى مقاول آخر، أما التنازل الجزئي فيتم من خلاله استعانة المقاول الرئيسي من خلال التعاقد مع مؤسسات أخرى في تنفيذ أجزاء من المشروع كالأعمال الكهربائية والميكانيكية أو توريد بعض مواد المشروع، وبالتالي فإن التنازل الكلي يعني المتاجرة بالمشروع وهنا تكمن المشكلة، أما الجزئي فمن الطبيعي أن يستعين المقاول الرئيسي بعدة مقاولين، سواء في تنفيذ بعض الأعمال أو توريد المواد.

والملفت للنظر في هذا الموضوع، أنه لم يتم تسليط الضوء على المسؤولية القانونية للمقاول الرئيسي والمقاول من الباطن، الأمر الذي أدى إلى تجاوز نظام المنافسات والمشتريات الحكومية برمته بسبب هذه الثغرة القانونية.

قبل مناقشة هذه الإشكالية، من الضروري في البداية استعراض نصوص النظام ولائحته التنفيذية في عملية التنازل عن العقود للغير، ومن ثم طرح ممارسات من الواقع في كيفية التحايل على النظام، وذلك على النحو التالي:

تنص المادة (71) من نظام المنافسات على أنه "ينفذ المتعاقد العمل بنفسه، ولا يجوز له التنازل عنه أو عن جزء منه، أو إنابة غيره في تنفيذه بغير إذن خطي سابق من الجهة المتعاقدة، ومع ذلك يبقى المتعاقد مسؤولاً بالتضامن مع المتنازل إليه أو المقاول من الباطن عن تنفيذ العقد".

وبناء على ذلك، فإن الأصل في التعاقد أن يقوم المتعاقد بنفسه بالتنفيذ، ويكون مسؤولاً بشكل مباشر أمام الجهة الحكومية، واستثناء من هذا الأصل، أن يقوم المتعاقد بالتنازل عن العقد إلى غيره من موردين أو مقاولين من الباطن بشرط وجود موافقة خطية وصريحة من الإدارة، وإلا فإن التنازل يعد باطلاً.

وعند موافقة الإدارة تكون المسؤولية بالتضامن بين المقاول الرئيسي والمقاول من الباطن في جميع الأحوال، سواء كان التنازل كلياً أو جزئياً، وبالتالي فإن العلاقة التعاقدية بين المقاولين غير واضحة، كما أن المسؤولية التضامنية جاءت بصيغة عامة دون تفاصيل ولم تتطرق إليها اللائحة التنفيذية على الإطلاق، لذا كان من المفترض أن يكون المقاول الرئيسي مسؤولاً بشكل مباشر عن أخطاء مقاوليه من الباطن الذين يمكن أن يستعين بهم في تنفيذ المشروع، والنص على ذلك صراحة وبشكل مباشر.

أما بالنسبة لموافقة الإدارة على هذا التنازل، فإن اللائحة التنفيذية للنظام تضمنت ضوابط لهذه الموافقة، ولكنها ضمن السلطة التقديرية للإدارة دون وجود ضمانات قانونية أو رقابية لها، فقد نصت المادة (47) من اللائحة على أنه يجب على الجهة الحكومية قبل موافقتها على التنازل عن العقد أو جزء منه مراعاة ما يلي:

أ - معرفة أسباب طلب التنازل، وعما إذا كانت هناك عقود أخرى للمتعاقد سبق له التنازل عنها، وذلك بموجب إقرار يقدمه المتعاقد إلى الجهة الحكومية.

ب - أن يكون التنازل بموجب اتفاقية يبرمها طرفا التنازل لتحديد التزاماتهما تجاه الجهة الحكومية صاحبة المشروع، ولا تعتبر الاتفاقية نافذة إلا بعد اعتمادها من الجهة الحكومية وموافقتها على التنازل.

ج- ألا يؤدي التنازل إلى الإضرار بالمشروع بتنفيذه بأسعار متدنية.

وتأسيساً على ما تقدم، فإن شرط الموافقة على التنازل من قبل الإدارة الحكومية، وضوابطها الواردة في اللائحة أعطت الضوء الأخضر لتجاوز نظام المنافسات من تشكيل لجان فتح المظاريف وفحص العروض والتحليل المالي والفني للعطاءات.. إلخ.

فيتقدم المقاول الرئيس بعطائه إلى الجهة الحكومية وفقاً للنظام ولائحته التنفيذية ويفوز بالمنافسة، ثم يقوم بالمتاجرة بالمشروع وبيعه على مقاول آخر أو على مقاولين متعددين، ويراعي أيضاً الضوابط الموجودة في اللائحة، فيتقدم بخطاب طلب الموافقة على التنازل إلى الإدارة، وقد لا يذكر أسباب هذا التنازل، فليس هناك من يراجع أو يراقب هذه الطلبات، وربما لا يكون هناك تصنيف للمقاولين من الباطن فليس هناك آثار قانونية أو أحكام رادعة، وفي النهاية تتم الموافقة على مثل هذه التعاقدات في مشاريع تكلفتها تصل إلى مليارات الريالات! وعند تعثر المشروع تضيع المسؤولية القانونية ويستطيع هؤلاء المقاولون استخراج سجلات تجارية جديدة بأسماء أبنائهم أو زوجاتهم أو أحد أقاربهم.

في هذا الصدد، يرى فقهاء القانون أن يتم "تقنين العلاقة مع المتعاقد الجديد ضمن آلية عمل النظام التي تنطوي على مراحل إدارية مماثلة لتلك المتخذة تجاه المتعاقد"، وفي رأيي أن هذا الاقتراح سيزيد من بيروقراطية المنافسات العامة ويعقد إجراءاتها أكثر، ويزيد من تكلفة العقود بسبب تطبيق هذه الإجراءات، لذا أرى من الأفضل التركيز على المسؤولية القانونية للمقاول الأصلي تجاه التزاماته في العقد، سواء تنازل كلياً أو جزئياً، يظل في النهاية المسؤول الأول والمباشر عن تنفيذ العقد، ومسؤولاً عن أية أخطاء أو إخفاقات قد تحدث في المشروع.