لم تعد القضية الفلسطينية بذات الحضور السياسي والوجداني العميق لدى الجماهير العربية، فقد حدث نوع من الاسترخاء الذهني والفكري والسياسي، خاصة بعد أحداث الربيع العربي، ولم تعد أحوال فلسطين بذات الأولوية، بعد أن كثرت الشواغل على الأمة العربية، فهناك حريق في العراق وسورية وليبيا، ومناوشات في مصر واليمن، حتى إننا لم نعد نلقي بالا كثيرا لما يحدث في غزة والضفة، وهما التوأم الفلسطيني الغارق في الاحتلال والاجتزاء مع كل تشتيت انتباه عربي.

حين استعاد الإسرائيليون مصطلح يهودية الدولة الإسرائيلية في الأعوام الأخيرة، بعد أن كان حبيس أدبيات المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في نهاية أغسطس 1897 في مدينة بازل السويسرية، فإنهم استغلوا انشغال العرب عن القضية الفلسطينية، وزهدهم في السلام المباشر وعدم اهتمامهم به.

وعكسنا تماما، لليهود ذاكرة لا تنسى ولا يمكن أن تموت خططهم وأفكارهم الاستراتجية، أو يتنازلون عنها تحت أي ظرف، ولذلك نجحوا في غرز الدولة الإسرائيلية في عمق الخريطة العربية.

يهودية الدولة، آخر أهم وأخطر الأفكار الإسرائيلية والصهيونية على الإطلاق، وحين ينجحون في تأسيسها على هذا المنهج، فلا حاجة لهم بعد ذلك بسلام دائم أو موقت، ويؤهلهم ذلك الإعلان إلى الانتقال التاريخي الأعظم في تأسيس دولتهم بكل نصوص التوراة المحرف وخطهم السياسي الذي يسحق الآخر لصالح كل ما هو يهودي. وهم بلا شك سيصلون مرحلة استعباد الفلسطينيين وخدمة اليهود، باعتبار أن ذلك جزء من عقيدتهم الدينية، وهذه المسألة إحدى الركائز الأصيلة للفكر الصهيوني، أي ثابت نهائي، ولذلك لا يتوقع أن يتعاملوا مع الفلسطينيين الذين ينتزعون منهم أراضي غزة والضفة بالمستوطنات العشوائية، وهي غير عشوائية، وتلك التي تحصل على تصاريح بناء، ليمعنوا في تحويل الفلسطينيين إلى أقلية غير قادرة على الحياة.

المعادلة الكامنة في فكرة يهودية الدولة، هي أن هناك وطنا نقيا لا يكتمل نقاؤه إلا بطرد آخر فلسطيني وعربي، أي أننا في السنوات المقبلة سيكون عرضنا بالسلام غير مرغوب فيه، وليس ضروريا أو ذي أهمية للإسرائيليين؛ لأنه حين لا يوجد فلسطينيون سواء من عرب 48 أو الخط الأخضر، فيما يتعرض فلسطينيو الضفة وغزة للمزيد من التضييق والمنع من ممارسة الحياة بصورة طبيعية، فإنهم يتحولون إلى معتقلين في سجون أوطانهم وأرضهم، بحيث تصبح المعونات أقصى ما يحلمون به، ولا فرق بينهم وبين معتقل جوانتانامو سيئ السمعة.

في الماضي قال السياسي الإسرائيلي أبا إيبان: إن "الفلسطينيين لم يضيعوا فرصة لإضاعة الفرص"، وعكسهم لم يضيع الإسرائيليون فرصة لاغتنام الفرص، وفور الحديث عن إعادة إنتاج يهودية الدولة اتخذ الكنيست الإسرائيلي في يوليو 2003 قرارا بضرورة تعميق فكرة يهودية الدولة، وتعميمها على دول العالم، ومحاولة انتزاع موقف فلسطيني إلى جانب القرار المذكور، وبغض النظر عن وقاحة المحاولة لانتزاع موقف فلسطيني إلى جانب هذا القرار، أستعيد ما ذهبت إليه في مقال سابق من أنه لم تعد هناك قضية فلسطينية، فمجرد وجود الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة تنتهي هذه القضية لتتحول إلى قضية للسلام والبحث عن الخط الأخضر وحدود العام 1967 واستعادة الجولان، وذكرت صراحة أن الأبعاد السياسية في التحول إلى قضية السلام عن قضية فلسطين تكمن في أننا مضطرون لقبول دولة إسرائيل بوضعها الحالي، بصرف النظر عن التطبيع الشعبي معها، فذلك سيحدث مع مرور الوقت بنسب ضئيلة، قد لا ترجوها الدولة الإسرائيلية أو تطمح إليها.

وفي الواقع لم يعد الظرف والزمان في صالح القضية الفلسطينية، لأني كما أشرت سابقا فإن الأجيال العربية المتعاقبة منذ النكبة وحتى اليوم، تخلصت كثيرا من مشاعر الشحن العاطفي، ولم تعد تستجيب لخطاب الشعر وكلام التاريخ وحكاياته المكررة، وحتى وإن تحولنا بالقضية إلى السلام، فإننا لا يمكن أن نجد الشريك الإسرائيلي الذي يجرؤ على استكمال مسيرته حتى التوقيع على أي صيغة سلام، وفي خضم الدولة اليهودية فلا يمكن تصور أن يتم سلام عادل ومتوازن.. إنه إن تم سيكون من ذلك النوع الذي يرى فيه الطرف القوي أنه يؤسس دعواه السلمية على أنه وقع عقدا مع مجمع آلهة: إله سماوي، وإله أميركي، وإله نووي.