ربما ينتابك شعور بالدهشة للحظة الأولى عندما ترى رجلا مسلما مستلقيا على الفراش في كنيسة ويتلو آيات القرآن الكريم! نعم، في مشهد يفوح منه عبق التسامح والتنوع بكل أبعادهما الفسيفسائية الجميلة، سجل إخواننا المسيحيون في غزة موقفا مشرفا يستحق أن نذكره بكل فخر واعتزاز، عندما فتحت كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس أبوابها لأهالي الشجاعية الذين نزحوا هربا من شدة القصف الإسرائيلي لإحياء ليلة القدر فيها، وفق التقرير الذي عرضته إحدى القنوات الفضائية، وقد أخذوا منها مكانا آمنا وقدمت لهم المأكل وقت الإفطار والسحور والمبيت فيها، وأشاد كثير من الأهالي بحفاوة الاستقبال والترحيب بهم وأكدوا أنهم كانوا وسيظلون شعبا واحداً. وبالمقابل، استيقظ مسيحيو الموصل – قبل أيام - على كابوس حرف "ن" المكتوب باللون الأحمر والمدون على أبواب منازلهم وواجهاتها، و"ن" يعني (نصراني)، أي أن داعش بدأت الفرز والتقسيم العقاري، باعتبار أن عقارات الدولة الإسلامية يدعي تنظيم داعش أنها ليست ملكا لأهل "الذمة" الذين عليهم دفع الجزية بالتي هي أحسن أو السيف، وهذه البيوت المرقمة بأرقام الحروف الجديدة (ن)، لم تعد ملكا لأصحابها (النصارى)، بل لدولة الخلافة الجديدة في الموصل الأمر الذي جعل أكثر من 25 ألف مسيحي يلملمون أغراضهم، ويشدون الرحال من ثاني أكبر المدن العراقية، في موقف مأساوي يجسد الفتنة الطائفية بكل معانيها!

صحيفة الجارديان نشرت – قبل أيام - تقريرا للكاتب ويليام دالريمبل عن المخاطر المحدقة بمسيحيي الشرق تقول فيه: "إن عشر السنوات الأخيرة كانت كارثية بالنسبة للـ12 مليون مسيحي الموجودين في المنطقة العربية، ففي مصر على سبيل المثال تعرض المسيحيون خلال ثورة 25 يناير وما بعدها لأعمال عنف استهدفت الكنائس والأفراد. وفي الأراضي الفلسطينية، وجد المسيحيون أنفسهم بين مطرقة الحكومة الإسرائيلية اليمينية وجيرانهم من الإسلاميين المتشددين، وهو ما أجبر الكثيرين على ترك بلادهم إلى تركيا والأردن ولبنان، وكذلك هو الحال بالنسبة للطائفة الأرمنية في حلب".

إنني أتساءل: ما مسؤولية مجتمعاتنا عن تصاعد العنف ضد مسيحيي الشرق الأوسط؟ من المسؤول عن إنتاج هذا الفكر الطائفي والإقصائي؟ نعم، نحن جميعا مسؤولون: ثقافة الكراهية المتجذرة في مجتمعاتنا، والمنابر المحرضة التي تدعو على الآخر بالهلاك، والمؤسسات التعليمية، والقنوات الفضائية، وتغلغل خطاب التشدد في الثقافة المجتمعية، والتفسيرات التحريضية لقوله تعالى: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، دون توضيح من المقصود باليهود والنصارى وفي أي سياق زمني، وخطاب كراهية الغرب اعتقادا بأن المسيحيين العرب امتداد لهم.

حقيقة أقولها وبكل صراحة.. ستستمر هذه الأزمات ما دمنا نرمي بالمسؤوليات على الآخرين، سيستمر الفكر الداعشي معربدا في الساحة مادامت المعالجات قائمة على ردود الأفعال والتفسيرات الخرافية.

عودة مرة أخرى إلى قصة ذلك المسلم الذي يقرأ القرآن في الكنيسة وهو في الواقع جعلني أستعيد سيرة المسيح عليه السلام؛ لنتعلم منه كيف نحصل على السلام العالمي، كما نعيشها مع رسولنا الكريم الذي جعل بوحي من الله تحية الإسلام (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) أن نعيش السلام، أن نتفاهم فيما افترقنا حوله، أن يعيش الإنسان إنسانيته في إنسانية الآخر، ألا ننطلق في دعوات الطائفية المقيتة، ولكن ننطلق في دعوات المحبة التي تفتح قلب الإنسان على الإنسان.

أخيرا أقول: علينا أن نقرأ واقعنا، فلا نسقط أمام البعض، الذين يحاولون تصوير الصراعات بين الإسلام والمسيحية، غير مدركين أن القضية الحقيقية للصراع هي في الاستبداد، ففي المسلمين مستبدون، وفي المسيحيين مستبدون، وفي اليهود مستبدون كذلك.