"قام إمام أحد المساجد في قرية السلامة العليا في بيش في منطقة جازان، فجر يوم العيد، أول من أمس، قبيل أداء صلاة العيد، بإزالة مصلى نسائي (الرواق) مخصص للنساء بمصلى العيد بالقرية بواسطة سيارته بعد صلاة الفجر، من خلال التفحيط بها في المصلى وهو ما اعتبره الإمام من البدع المخالفة للشرع، ولم يكتف بذلك، وإنما حاول صدم رئيس النشاط الاجتماعي بالقرية".. "انتهى".
كل هذا العنف الذي ينفجر اليوم في مشهدنا المحلي من خلال الأحداث والجرائم المتلاحقة والمريرة التي تحدث هنا وهناك، يؤكد بجلاء أننا نعيش أزمة فكر حقيقية، فإشارات هذا العنف قد بدأت في اللمعان منذ حين معلنة غياب ثقافة الاعتدال عن المجتمع السعودي! مشاهدة بسيطة لسير السيارات في الطرق والشوارع الأسفلتية تكشف لنا حجم ميل هذا المجتمع إلى العنف. مرور عابر على ملاعب الكرة الترابية تخبرك بمعجم العنف الذي يبرع في حفظه شبابنا الجديد بل حتى صغارنا!
كنتُ مرة في محل لبيع الأشرطة الـ"سي دي" والبائع الشاب يحث الأطفال على شراء شريط معركة عين جالوت ويدعو لهم أن يكونوا من المجاهدين في سبيل الله مثل أولئك الأبطال في المعركة! وفي محلات أخرى تبرز أغلفة أجنبية عنيفة هي الأخرى بالصور التي تتصدر أغلفتها رشاشات وبنادق وسكاكين! هل لاحظتم كيف يتحول فرحنا بنصر رياضي مثلاً على مستوى الوطن أو على مستوى الأندية إلى فوضى وشغب!
إن كل ما يحدث اليوم من عنف عبر مشاهده كافة، لا يثير استغرابي، ولن ينتزع مني تعليقاً يُلقي باللوم على هذه الجهة أو تلك الفئة. إنها أزمة فكر قبل أي شيء، كما أراها حالة طبيعية جداً لواقع (يفضِّل) أن (يكذب) على نفسه، بل ويستمرئ ذلك، على أن يعترف بأمراضه المتعددة المستفحلة، ويواجهها بالعلاج الناجع خطوة بخطوة، هذه الحالة تنذر بغد أسود، لا يمكن التكهن بمدى الأضرار التي سيخلفها لنا، إن لم نتحرك من الآن، صوب استخلاص العبر والدروس من هذه الشرارات المتفرقة قبل أن (تتطور) و(تلتقي) و(تتجمع) مشكِّلة تحالف النار الأعمى، وتلتهم مجهود العقود السابقة، أخضره ويابسه على السواء.
لك أن تسأل عن صورة شبابنا اليوم في "فيلم" يجعل الواقع هو "الخيالي الأكيد"؟ لتتابع المشاهد القاتمة بوضوح يكدر العقل والقلب معاً: جرائم، شذوذ، انسلاخ، مخدرات "تجارة وتعاط"، تطرف، والمضي طوعاً وحباً، وكرهاً أحياناً إلى العدم!
ماذا يعني الشباب؟.
- الطاقة، العنفوان، التضحية، الإخلاص والتفاني!
أين تصب هذه الينابيع الفتية؟
- لا مصب، فالأنهار (مغلقة) تضيق بالمستحمين، وعليها أن (ترتد) إلى نهر الداخل (المكبوت) - داخلها - حتى تجد أية فرصة أو (منفذ) تفرغ من خلاله حمولة طاقتها وغليان قهرها، بشكل عشوائي، يدمر ويخرب ويقتل نفسه!
إذاً، ليس ثمة خيار أو هامش متاح؟
- كلا، هنالك كرة القدم، إنها الهامش الوحيد الذي اتضح جليا، في السنوات الأخيرة، أنه ليس بمقدوره أن (يحتوي) جيلاً مختلفاً في كل شيء، جيلاً متذبذباً متنافر الأفكار، ضحية نظام (أبوي)، بات يعول على رهان العنف غير المقصود الشيء الكثير، وهو عنف سيبلغ درجة القصدية غداً مستفيداً من أحداث تقع هنا وهناك، جيل (بلا قدوة) حقيقية تبث فيه الاتزان عبر السلوك لا التعليمات، إنني أراه اليوم (يُطبخ) جيداً، وسيستوي ليضع طبقه بسهولة على مائدة أصحاب (الهوى) الخاص، لا ليتغذوا به وإنما ليكون وقود أفكارهم ومطامحهم ونوازعهم الشريرة. أخاف كثيراً، من هذا التصور الذي لا بد - لكي نمنعه - من تخيله والاحتياط له، لا عبر الإجراءات الأمنية وزيادة الاحتراس الرقابي فحسب، وإنما (بتبديل) الواقع قبل أية خطوة أخرى.. ليست البطالة هي المسؤولة وحدها عن واقع شبابنا، إنها فقط إحدى النتائج في ظل غياب، لا مبرر مقنعاً أو منطقياً له، لمتنفسات فكرية وفنية تسهم في الارتقاء بوعي الشباب: أين السينما وأين المسرح وأين الأندية الخاصة؟ وقبل ذلك أين الخطوات الفعلية لتضييق "الاتساع" بين "طبقتين": واحدة ذات ثراء فاحش على حساب الأخرى؟ وما الذي يتم حيال هؤلاء الذين "يبذرون" الثروات الوطنية بشكل أو بآخر؟ في أي وقت سنبدأ بمراجعة صادقة للامتيازات الخاصة الممنوحة لفئات بعينها وفق لا منطق ولا شرع، امتيازات التعدد الوظـائفي الذي لو قنن شـكلاً ومضمـوناً لتمكنت الآلاف المؤلفة من العيش الكريم أيضا؟
يعلمنا التاريخ أن أي "واقع" يفقد محبة الشباب فإنه يفقد استقراره! هؤلاء الشباب، من بقي منهم وبما يعانونه سيكون من السهل اجتذابهم وتكريسهم لخدمة أغراض خاصة تتخذ شكل قضية تثير الحماسة والعواطف عند إطلاق شعار "العدل والمساواة"!
فهل نلحق بالأمور قبل أن تفلت وتجتاحنا الأعاصير؟