في الوقت الذي كان التنظيم الدولي للإخوان يخطط ويتعاقد مع محاميين بريطانيين، لما يسميه قادته "تدويل الانقلاب العسكري" باللجوء للمحكمة الجنائية الدولية، والمنظمات التابعة للأمم المتحدة، والمنظمات الحقوقية الدولية، ضد ما يصفونه بممارسات و"جرائم الانقلاب" على "الشرعية" في مصر.
مضت الأمور بالفعل صوب التدويل، لكن ضد ذلك التنظيم الدولي ومستقبل الجماعة على مختلف الأصعدة، لتضعها حيال "مأزق وجودي" يواجهها إقليمياً ودولياً، في ظل توجه عدة دول عربية وغربية لحظر كافة أنشطة الجماعة على أراضيها.
تصعيد المأزق
على الصعيد العربي هاهو أمير الكويت عقب تفويضه من قبل دول الخليج للقيام بالوساطة يتمكن عبر اتصالات ولقاءات مكثفة من التوصل مع أمير قطر لنتائج أفضت للالتزام بتنفيذ بنود "وثيقة الرياض" الموقعة في 23 نوفمبر الماضي، وأبرزها أن تلتزم قطر بالتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول الخليج والدول الأخرى، وتلتزم خلال فترة لا تزيد عن شهرين بإبعاد كافة العناصر المعادية لدول المجلس والدول الأخرى والمطلوبة قضائيا بعيدًا عن الأراضي القطرية. هنا إشارة واضحة لقادة الإخوان الملاحقين من قبل السلطات المصرية، التي تُشكك في التزام الدوحة بتنفيذ هذه الالتزامات وتتوقع التفافها على الأمر.
كما نصت أيضاً بنود الاتفاق صراحة على وقف كافة أشكال الدعم القطري للإخوان والتنظيمات المتطرفة الأخرى، والتعامل معها باعتبارها مناوئة تستهدف زعزعة الاستقرار في مصر والدول العربية، واتخاذ كافة الإجراءات العلنية الكفيلة بإنهاء العلاقة التي تربط بين قطر وهذه الجماعات، وأكدت ضرورة التوقف عن التحريض ضد مصر لدى دول العالم، وتجنب وصف ما شهدته بأنه "انقلاب عسكري"، واحترام إرادة المصريين في اختيار نظامهم الوطني، ووقف الحملة الإعلامية ضد المشير عبد الفتاح السيسي، المرشح للانتخابات الرئاسية، والالتزام بسياسة الحياد بين المرشحين، كما ورد في بنود الوثيقة بالنص الحرفي.
وبهذا الاتفاق، الذي سيظل تحت المراقبة والاختبار لمدة شهرين، يكون التنظيم الدولي للإخوان تلقى واحدة من أقوى الضربات التي مارست الرياض أقصى الضغوط لوضعه موضع التنفيذ، فهو يُلزم "حليفاً إقليمياً" للإخوان صراحة بطرد عناصره من أراضيه ووقف دعمهم في الخارج، وتوقعت مصادر تحدثت معها "الوطن" أن مهلة الشهرين لتقييم مدى التزام قطر ببنوده دون التفاف.
تدويل "إرهاب الإخوان"
على الصعيد الدولي بعد خطوة الرياض، جاءت الضربة الأخرى من دولة طالما اعتبرت بمثابة "الملاذ الآمن التاريخي" للتنظيم الدولي للإخوان، وهي بريطانيا، فقد وجه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في مستهل أبريل الجاري، بفتح تحقيق حول جماعة الإخوان بناء على "تقييم موقف" تلقاه من أجهزة الأمن الداخلي والمخابرات البريطانية (M i6) عن احتمالات تشير إلى ضلوع الجماعة في اغتيال ثلاثة سياح في حادث إرهابي استهدف حافلة في مصر، وتفاصيل أخرى لم يُفصح عنها كاميرون لاعتبارات أمنية.
الضربة التالية جاءت من أقصى الشمال حيث قرر البرلمان الكندي حظر كافة أنشطة جماعة الإخوان مؤخراً، ومن هنا بدأ قادة التنظيم الدولي يدركون حجم خسائرهم وسوء تقديرات مواقفهم السابقة، ويحاولون الرجوع عما سبق أن أعلنوه من الجهاد في مصر، والإصرار على إسقاط مسار ما بعد 30 يونيو ودولته، فبينما يتمسك شبابها المتحمس بالاستمرار وتصعيد المواجهة، كما أوضحت معلومات كشف عنها أحد محاميها، فإن كبار قادة الإخوان وخاصة محمود عزت ـ الهارب لقطاع غزة والمتنفذ داخل مكتب إرشاد الجماعة وتنظيمها الدولي ـ يدعون إلى ضرورة التوقف عن تصعيد المواجهات والعمليات، لكن حسبما نقلت مصادر في أجهزة سيادية مصرية، أنها رصدت حوارات أجراها مع قادة حركة "حماس" مفادها أن قادة التنظيم بعد حبس معظمهم، وهروب الباقين لعدة دول فقدوا السيطرة على القواعد الشعبية، والتي راحت تتصرف دونما انتظار للتعليمات المركزية كما كانت تجري الأمور سابقاً.
تفكك البنية المركزية
هذا الحديث عن تفكك البنية المركزية للتنظيم ينفيها الإخواني المنشق مختار نوح بقوله إن الجماعة "ما زالت تملك ما يسمح لها بمركزيّة القرار، إذ إن جانباً هاماً من هيكلها الأساسي ما زال قائماً وهو المكاتب الإداريّة التي ينتمي قادتها للفكر القطبي (نسبة لسيّد قطب مُنظّر الجماعة البارز). وأن المكاتب الإداريّة هي الهيكل الأساسي لـ"الجماعة"، وأن أجهزة الأمن ينقصها الكثير من المعلومات عن هذه البنية بالغة التعقيد للتنظيم، خاصة بعد تفكيك جهاز "مباحث أمن الدولة" وتأسيس "جهاز الأمن الوطني" الذي فقد خبرات لضباط أطيح بهم خلال العام الذي حكم فيه مرسي والإخوان البلاد، وإن عادت بعض الكوادر الأمنية التي تتابع ملف الجماعة منذ عقود، لكنها ليست كافية للتصدي لمواجهة مفتوحة، بين التنظيم والدولة على نحو غير مسبوق. كما نقلت تصريحات صحفية عن إيهاب شيحة، رئيس "حزب الأصالة" والقيادي في ما يسمى "التحالف الوطني لدعم الشرعية" والمقيم في قطر حالياً، أن لديه تأكيدات بأن الاتفاق "السعودي ـ القطري" لإنهاء أزمة دول الخليج سيقتصر على أمورٍ خليجيةٍ صرفة، لافتاً إلى أنه لا توجد تعهدات قطرية للسعودية بطرد قيادات التحالف وجماعة "الإخوان المسلمون"، على حد تعبيره.
مذبحة "المماليك الجدد"
وسط هذا المشهد المحلي والإقليمي والدولي المناوئ للإخوان فهناك "تقديرات أمنية" لدى أجهزة سيادية ترى أن الظروف باتت مواتية للقضاء عليهم تماماً كما فعل محمد علي في مذبحة "المماليك"، فالظروف السياسية التي عاشتها مصر قبيل إحكام محمد علي (مؤسس الدولة الحديثة) تُشبه الأوضاع التي تُحاصر البلاد حاليًا. ففي عهد "الباشا" توحش دور المماليك وخاضوا صراعات خلقت مناخًا من عدم الاستقرار السياسي، وهو ما يحدث حالياً في ظل حروب الجيل الرابع التي يشنها "مماليك جدد" من أنصار جماعة الإخوان، وشريحة من الحركات المشبوهة التي تمكنت واشنطن وحلفاؤها وعملاؤها من استخدامها، لانهيار أقدم دولة مركزية بالتاريخ، والتي يلعب فيها "الحاكم الفرد" دور البطل الذي تلتف حوله الأمة لحماية الدولة.
العمل السياسي
ويستند هذا الرأي لاستبعاد الإخوان العودة للعمل السياسي، ليبقى الوضع على ما هو عليه، فالقيادات المتحكمة بقرار الجماعة لا ترغب في العودة للعمل السياسي إلا بالتجاوزات السابقة نفسها، كبقاء الجماعة كياناً غير شرعي ولا يخضع لأي إشراف، وأن القيادات المتحكّمة بالقرار هي على حالها وتتحكّم في القرار من خلف القضبان، كما كانت تفعل في عهد مبارك، الذي تعرّض فيه العديد من أعضاء مكتب الإرشاد للسجن، فقيادات مكتب الإرشاد القطبيين سيشكّلون مع قيادات المكاتب الإداريّة عقبة في طريق إعادة هيكلة الجماعة وعودتها إلى العمل في إطار جديد بعيداً عن طبيعة التنظيمات السريّة التي أدمنها الإخوان طيلة تاريخهم.
جرائم محلية
ويمضي أصحاب هذا الطرح المتشدد أمنياً لحقائق سياسية، منها أن جرائم الإرهاب ليست مجرد "جرائم محلية"، لكنها ذات منابع فكرية، ومالية وتنظيمية وحركية وسياسية دولية، وبالتالي ينبغي التعامل مع كل هذه المنابع بتجفيفها، واتخاذ قرارات صارمة لا تحتمل التمييع، أو إمساك العصا من منتصفها، بل حسم الأمور بشكل قاطع، فالأمر يتعلق بمستقبل الأمة، وفي ظروف تاريخية استثنائية، أمسى الجميع فيها مُستهدفين، وهؤلاء طالما قدموا المبررات لمن يريد دهس الجميع، كما سبق لهم وقدموا مراراً عشرات الذرائع بممارساتهم الإجرامية للقاصي والداني، ليضعوا أنفسهم موضع الاتهام على الصعيد الدولي، يمنح مصر الغطاء، لتوجيه ضربة لم يسبق أن تلقتها الجماعة من قبل، تكفل تشتيت شملهم في المدى المنظور على الأقل.
ويمضى أصحاب هذا الطرح داخل المؤسسة الأمنية المصرية بالقول "إنه ربما يُحذر البعض من الحملات الدولية لو أقدمت مصر على التخلص من الإخوان الذين اعتبرهم "مماليك العصر"، وسيراه آخرون سلوكًا غير أخلاقي، لكن حملات التشويه ضد المسار السياسي تحدث بالفعل، كما أن الهواجس الخارجية ينبغي لصنّاع الدول تجاوزها، وتُؤكد دروس التاريخ، أن الذين تصدوا لبناء مشروعات سياسية كبرى اتخذوا إجراءات بالغة الصرامة، لأن البديل هو فشلهم واغتيالهم معنويًا، وربما تصفيتهم جسدياً. ويختتم أصحاب هذه الرؤية الأمنية بالقول "إن هناك إجماعا على خطورة الوضع ووعورة الطريق، لهذا فالإفراط في المواءمات سيُقوي شوكة "المماليك الجُدد"، ويجعل مهمة الرئيس المُطالب برسم ملامح "الجمهورية الجديدة" بالغة الصعوبة، وقد تتعرض للإجهاض، وبالتالي فإن تحمل فاتورة "الضربة القاصمة" أهون من حجم المخاطر المحدقة بمستقبل مصر والمنطقة برمتها، وفق هذه الرؤية الحادة.
تفكيك التنظيم الدولي
لكن في الجانب الآخر هناك رؤية تقوم على تفكيك الجماعة تنظيمياً، خاصةً بعد تورط عناصرها في العنف، وأن الوضع يتماشى مع المعطيات الجديدة على الأرض، في ظل الواقع السياسي الجديد، واتخاذ الإجراءات الأمنية المشددة واستخدام التقنيات الحديثة لتتبعهم وتحديد أماكنهم، حتى تدرك الجماعة أن نشاطاتها ستواجه بحزم أكثر مما كانت عليه الأوضاع سابقاً، لأن من سيتصدى لها سيكون الجيش والشرطة، وليس كما الماضي الشرطة وحدها.
المحاور الأربعة
وطبقا لمعلومات أمنية، فإن الخطة تقوم على أربعة محاور أساسية، هي: المحور الأمني من خلال حملة اعتقالات مُوسّعة تُعيد للأذهان حملات العهد الناصري 1954 و1965، طالت عددا كبيرا (تعدى 5 آلاف حسب الأرقام المتداولة في أوساط النشطاء) من قيادات ورموز الجماعة في شتى أنحاء البلاد.
والمحور القانوني، الذي شمل التحرّك لحلّ جمعية "الإخوان المسلمون" التي تمّ تأسيسها في 19 مارس 2013 وإجراء محاكمات وإحالات للجِنايات لعدد من رموز الجماعة والحزب، على أن تكون ناجزة ولا تستغرق وقتا طويلاً لتصدر أحكامها النهائية.
أما المحور الثالث فهو الإعلامي، الذي يتضمن شن حملة منظمة تشارك فيها وسائل الإعلام الحكومي والخاص، لفضح حقيقة الجماعة محليا ودوليا، وتقديمها للرأي العام كجماعة مسلّحة تمارس العنف و الاغتيالات وأعمال الحرق وتخريب المنشآت.
وأخيراً يأتي المِحور الاقتصادي، ويشمل تجميد أرصِدة الجماعة والحزب، والتحفّظ على أموال ومُمتلكات أبرز قادتها ورموزها، ثم الكفالات التي تدفعها الجماعة للإفراج عن كوادرها الذين يتِم اعتقالهم خلال المواجهات الدموية شبه اليومية، وهو ما يحدث بالفعل. ويتحدث خبراء وباحثون عن مرحلة نهائية تأتي في أعقاب "الحسم الأمني" وتستهدف إعادة تأهيل جماعة الإخوان عبر مبادرة تطرحها الجماعة دون انتظار التفاوض مع النظام بشأنها، ولا بدّ من أن تتضمّن فك الارتباط مع الجماعات الإرهابيّة والإفصاح عن كافة المعلومات، وقطع ارتباط "الجماعة" في مصر بـ"التنظيم الدولي للإخوان المسلمين"، وإعادة هيكلة الجماعة بمكاتبها الإداريّة، حتى تصبح جماعة دعويّة وخيريّة فقط تخضع لإشراف كامل وصارم من قبل وزارة التضامن الاجتماعي، كما تتعهّد "الجماعة" بشكل واضح قاطع بعدم مخالفة القانون، وإعادة تأهيل أعضاء الجماعة فكريًا وتخليصهم من بعض الأفكار المتطرّفة، تمهيداً لجعلهم يؤمنون إيماناً تاماً بمدنيّة الدولة.
سحق التنظيم
إن هذا الطرح الأخير لا يلقى قبولاً من كافة الأطراف، فالجماعة بكوادرها من مختلف الأطياف والأجيال ترفض هذا الإذعان، ولديها "يقين ما" بأنها كما سبق لها وتجاوزت محناً كثيرة فستتجاوز هذه المحنة والابتلاء، كما يصفون الصراع الدموي الراهن مع السلطات. وأيضاً فهناك رؤية تتبناها قيادات تصنف كصقور في المؤسستين العسكرية والأمنية، ترى أن الدولة لا يصح لها التفاوض مع تنظيم إرهابي، يحمل عناصره السلاح ويرتكبون شتى جرائم العنف من التفجيرات والاغتيالات، وأنه لا مفر من "سحق التنظيم"، وبعدها سيكون لكل حادث حديث، ويتوقف الأمر على مدى التزام من لم تثبت بحقه التورط بممارسة الإرهاب باحترام القانون، وكافة مؤسسات الدولة.
الحسم الأمني
وبينما تنقسم النخبة السياسية والفكرية بين عدة رؤى متضاربة كعادتها، تبقى الشريحة العريضة من الشارع المصري مع حتمية الحسم الأمني، عبر تتبّع مسار "الجماعة" وقطع علاقتها بالتنظيم الدولي ولديها يقين بقدرة أجهزة الأمن على قطع أي اتصال بين إخوان مصر و"التنظيم الدولي"، وتصعيد الملاحقة الدولية حتى لا تجد قيادات التنظيم التمويل ولا الملاذ الآمن، وبانتظار شهري المهلة التي منحتها "وثيقة الرياض" لمدى التزام قطر باتفاق الرياض روحاً ونصاً، شريطة توافر "الإرادة السياسية"، وهو ما يشكك به كثير من المراقبين المهتمين بالشؤون الإقليمية والخليجية، وحتى باستطلاع آراء مواطنين مصريين بسطاء يشاركونهم الشكوك، لكن ليس أمامنا سوى ترقب ما ستسفر عنه الأيام المقبلة من تطورات، في مواجهة مفتوحة على كافة الاحتمالات.