طاف بي طائف الحنين في موسم العيد السعيد، فوجهت بوصلتي نحو مسقط الرأس ومرتع الطفولة، مدينة الطائف المحفورة في الذاكرة بجوها العليل وسلة ثمارها عذبة المنظر وحلوة المذاق من تين ورمان وعنب وخوخ، وباقة من أريج الريحان. لم تعد الروح تتسع لمزيد من صخب المدن الكبرى وضجيجها المأزوم وجوها الخانق للأنفاس فتتابعت متوالية الذكريات. لم أعد قادرة على إعادة ترتيبها ولم أعرف كيف أنظمها بطريقتها الخاصة فواجهتها بغتة، فتية تتسلل لحنايا الروح والوجدان. وهكذا جاءت الفكرة مجنونة لتقليب صفحة الذكريات المترعة بالأحداث والأماكن، الباذخة بالبساطة والعفوية، فكانت الطائف على سلم الأولويات.
الطريق الجبلي المتعرج المؤدي إلى الطائف أصبح ساحراً للفؤاد بعد أن كان مضنياً للجسد، مساران ممهدان تنيرهما أضواء تشع مع نجوم السماء وعلى جنباتها جبال شامخة لا تعرف الانكسار. جبل الكر يصلك إلى مرتفعات الهدا غرب مدينة الطائف، مرتفعات تزهو على ارتفاع 2000 عن سطح البحر. منطقة جبلية تكسوها بعض الخضرة الخجولة على جبال تعلوها الفرحة كلما عاودت ذكرى تسلقتها مع الشباب والشابات منذ زمن جميل لم يترك في القلب إلا نقشاً من صور الحياة الماضية. يقولون إن الهدا لؤلؤة المصايف شتاءً، ويسمونها سويسرا السعودية بجمال جوها وعطر رذاذها المتساقط على جيدها بحبات لؤلؤ البرد.
ها أنا إذن في الطائف على مرتفعات الهدا، ها أنا وجهاً لوجه أمام محبوبة لم يغب وهج جمالها عن صفحة الذاكرة متوقداً كما كان مذ تركتها لسنوات خلت. وللحق فقد اكتسبت المدينة رونقاً ثقافياً وتغيراً اجتماعياً جيداً حيث استعاد الإنسان القدرة على الاستمتاع ببهجة الطبيعة بعد أن غيبت بسبب التشدد والانغلاق الاجتماعي الذي كان مسيطراً، وقد أضاف جو العيد الاحتفالي بريقاً وبسمة غابت عنها لسنوات. النساء والرجال والأطفال يحتفون ويحتفلون بما يحمله العيد من بهجة في أجواء تجمع العائلة في المنتزهات والحدائق دون خوف أو وجل.
بحثت عن استراتيجية تطوير الطائف حتى وجدت بين ثنايا الفضاء الإلكتروني هذا النص: "أما عن الرؤية المستقبلية فيجب التأكيد على هوية الطائف الأساسية كمصيف مميز عن طريق التخطيط الشامل المنهجي لتطوير وتطويع جميع الإمكانات وتهيئة جميع المواقع المكانية عن طريق الدراسة العلمية المنهجية بحيث يتم المشاركة بين القطاع العام والقطاع الخاص وتهيئة المواطن لنهضة شاملة وتسخير الإمكانات لفتح أبواب المساهمة المتكاملة لجميع أفراد المجتمع."
إن التطوير السياحي لا يتعارض مع الحفاظ على الطبيعة الجغرافية للمكان ولا يفترض إزالة المعالم التاريخية الأساسية المميزة للمكان. وبالرغم من أن الهيئة العامة للسياحة، كما نصت عليه استراتيجيتها العامة لتنمية قطاع السياحة الوطنية، قد حددت رؤية واضحة وهيكلاً تنظيمياً مفصلاً لضمان نجاح التطوير السياحي المتوافق مع مبادئ التنمية المستدامة والطبيعة البيئية، إلا أن ذلك لم ينعكس على أرض الواقع السياحي في منطقة الهدا. فعلى الرغم من توفر العديد من الفنادق الكبيرة والمنتجعات السياحية الضخمة، إلا أن الخدمات المقدمة أقل من المستوى المتوقع ولا تربح أمام المنافسة العالمية في جودة المنتج السياحي. فالفنادق التي تدرج تحت قائمة الخمس نجوم تشكو من قلة الخدمات وضعف الصيانة فالمرافق والبنى التحتية في هذا المصيف الهام لم تصل إلى المقاييس العالمية. ويبدو أن دون هذا الأمل جبال تفوق جبال الهدا منعة. الكثير من المعالم التاريخية لم تتطور بما يكفي لتكون مقصداً رحباً للزوار فبعضها قد تهدم والبعض الآخر اقتلعته رياح التطوير السياحي من جذوره. درب المشاة الأثري الذي يمكن مشاهدته من التلفريك في الهدا على جبل الكر يتعذر الوصول له لغير الخبير في مسالك الجبال. وعند تجوالي بالسيارة باحثة عن منفذ يصلني بطريق مؤدية للجبال كانت المفاجأة صادمة لذاكرتي الملتاعة، حيث لا وجود لمثل هذه المنافذ سيراً أو ركوباً. فلم يعد بإمكان السائح أن يتسلق الجبال أو أن يقوم بنزهة على الأقدام بعد أن احتشدت المباني الإسمنتية والأسوار العالية تحجب الرؤية وتجعل من الوصول إلى الجبال أمراً صعب المنال.
ولكي تصبح السياحة صناعة مكتملة تجذب المصطافين والزوار وتخلق فرصاً للعمل لا بد أن تتوفر المعلومات والخدمات الأساسية بطريقة عصرية وتحكمها قوانين وتشريعات واضحة بحيث لا يشعر المصطاف بغبن أو ضياع لحقوقه من ناحية الأسعار والخدمات المقدمة. على سبيل المثال، فتذكرة ركوب التلفريك في الهدا على جبل الكر لا تمثل خطة مدروسة، فالتذكرة المعروضة على السائح مختومة بسعر يشمل استخدام ثلاثة مرافق (التلفريك والحديقة المائية والتزلج). وكما نعرف جيداً بطبيعة العادات والقيود الاجتماعية فالنساء والبنات لا يمكنهن استخدام الحديقة المائية أو التزلج ليس اختياراً بل إجباراً ومن غير المنطق أن تصدر تذكرة واحدة لهذه النشاطات ونحن نعرف سلفاً استحالة استخدامها بغض النظر عن قيمة التذكرة. أما عن المعلومات والعروض والشروح عند مناطق التراث الثقافي والطبيعي فلم يكن لها وجود، لا في الفنادق ولا في المنتجعات، حيث يفتقد الزائر أبسط الكتيبات المعّرفة بالمنطقة، هذا فضلاً عن افتقار المنطقة للاستراحات اللائقة على جانبي طريق الهدا حيث كان المؤشر الوحيد لهذه الاستراحات والدال عليها هو تجمعات أرتال من "القرود" الجذابة ببدائيتها والمنتشرة بعشوائية خطرة على جانبي الطريق.
ولكن متى ما أدركنا أهمية التوازن بين احترام الخصائص الطبيعية والبيئية والتاريخية وبين احتياجات الرفاهية الحديثة للمصطافين والسياح، يصبح لدينا بصيص أمل أن تكون طائف الصبا حقاً سويسرا المملكة، أو على سبيل الواقعية لبنانها.