من البديهي أن أي شعب لا يمكن أن يتمكن من فن أو أدب، ويتقنه ويبدع فيه، ما لم يؤمن بشرعيته، وعليه يسعى للتمكن منه ثقافياً ومؤسساتياً وتشريعياً، ويفتخر بأي بارقة إبداع أو وميض نجاح فيه. وهذا قد يصدق على كل الفنون والآداب. والفنون بما فيها الموسيقى والغناء والدراما، هي من الفنون، التي تحتاج أكثر من غيرها، للبنية التحتية الثقافية والتشريعية والمؤسساتية، الداعمة لها والمحفزة عليها، من أجل التمكن منها وازدهارها داخل أي مجتمع، وذلك لكونها أولاً تعتمد على الإبداع الجماعي، وليس الفردي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، على التذوق الجمعي، لاستقبالها والاستمتاع بها. ولذلك فنحن نطلق صفة الإبداع على شعب ما، من خلال انبهارنا بفنونه الجمعية، وهذا دليل على أن الإبداع هو سمة جمعية قبل أن يكون سمة فردية.
إذاً فالمبدع في المجال الفني، هو ابن بيئته، لن يتألق في مجاله، ما لم تتألق بيئته في احتضان ورعاية موهبته. وأول دعم للمبدع في المجال الفني، هو وبلا ريب أو شك، شرعنة ما يؤديه من إبداع، أو محاولات إبداعية؛ لتجعل كل حواسه وأحاسيسه، تتحرك من دون قيود أو معوقات. فلا يمكن أن يبدع أي إنسان في أي مجال فني، ما لم يؤمن بأن ما يقوم به أو يؤديه هو عمل مطلوب ومحمود عليه معنوياً قبل أي عطاء مادياً. الإبداع أفق وليس نفقا، وإحاطة الإبداع بالمحرمات والممنوعات، تسحبه من مجال الأفق الأرحب، وتحشره في مجال النفق الأضيق. وفي معنى آخر المبدع كالطير، كلما تم نزع ريش من أجنحته، فسوف يحاول الطيران، ولكن قريبا من الأرض، إن لم نقل يطير ويسقط على الأرض. وكل محرم أو ممنوع يفرض على المبدع هو انتزاع ريشة أو ريش من جناحيه؛ فلا يجب بأن ننتظر منه تحليقاً يليق بطائر، مهما أسميناه بطائر. وليس معنى هذا أن الفنان نفسه، لا يعرف مجال حدوده، والتي هو يحددها لنفسه، بمحض إرادته.
والفن لدينا خاصة الموسيقى والغناء والدراما هي من الفنون المحرمة، إن لم نقل، شبه المُجرّمة في ثقافتنا الاجتماعية. ولذلك فمبدعونا في هذين المجالين، يتحركون داخل نفق. والدليل على ذلك عدم وجود معاهد أو كليات تدرس هذين المجالين من الفنون. ناهيك عن عدم وجود أنظمة وتشريعات واضحة ومباشرة تحمي فنانينا من أي اعتداء معنوي أو مادي عليهم أو على حقوقهم. حتى وصلت القناعة عند بعض فنانينا أنفسهم، بأن ما يقومون به من إبداع هو خارج الإبداع الشرعي، حيث صرح أحد فنانينا الكبار وهو من الرواد في مجال الغناء، بأنه لا يطعم أبناءه من المال الذي يحصل عليه عن طريق الفن. ناهيك عن أقارب بعض الفنانين الذين لا يأكلون في بيوتهم بتهمة أن مال الفن هو مال محرم. فبيئة تحرم الفن وتدينه، يجب ألا تتوقع إبداعا وإبهارا من فنانيها أكثر مما هم قادرون على إعطائه؛ فمن الطبيعي أن فاقد الشيء لا يعطيه، فما بالنا بمحرم الشيء ومحاربه.
ومن الكوارث التي يعاني منها الفن لدينا، نتيجة عدم وجود معاهد وأكاديميات فنون جميلة، هو غياب النقد الفني المحترف، الموضوعي البناء. فالناقد هو في الأول والأخير زميل مبدع للفنان، يقف بصفه ويتحرك معه خطوة بخطوة، وهؤلاء موجودون لدينا في بعض صحفنا في الصفحات الفنية المتخصصة، وهم ندرة الندرة. ولذلك أصبح النقد الفني في مجمله في صحافتنا مهنة من لا مهنة له. وأصبح كثير من كتاب الصحافة لدينا، يتناولون أعمالنا الدرامية المحلية وبتلذذ وتشف بفضح عيوبها الذين يعتقدون بأنهم قد وقفوا على تشخيصها دون غيرهم. ونسوا أو تناسوا، أنه ليس لدينا صناعة دراما، وإنما أعمال درامية، تقوم على أكتاف بعض الأفراد من المجتهدين المحاربين، أو المنبوذين.
فحصيلتنا الدرامية هي نتاج، ما أسميته " بالتخبطات الخلاقة"؛ والتي أخذت تصحح نفسها بنفسها، منذ بداية السبعينيات الميلادية، مع حذف عقدي الثمانينيات والتسعينيات، ما عدا عمل فريق طاش ما طاش، الذي بدأ عمله في بداية التسعينيات ميلادية. النقد مطلوب وواجب الحضور مع بداية أي عمل فني أو أدبي، وكما ذكرت بأن الناقد هو زميل لا يقل إبداعاً عن زميله المبدع في المجال الفني أو الأدبي؛ بشرط تمكنه من أدوات وأدبيات وآليات مجاله. ولكن ما أخذنا نقرؤه ونسمعه من كثير ممن طرحوا أنفسهم نقادا دراميين لا يعدو كونه تهريجا في تهريج، لا يرقى لمجال الأعمال الدرامية التي يصمونها هم بالتهريج. فلا يمكن لأي ناقد محترف، أن يستبعد كل العوائق التي توضع والموضوعة أمام الفنان في المجال الدرامي المحلي، ويحاسبه وكأنه يحاسب مبدعا هوليوديا أو على الأقل مصريا أو سوريا أو كويتيا، حيث توجد في مثل تلك المجتمعات التي يعطي من خلالها الفنانون الدراميون، كل متطلبات الصناعة والاحترافية الدرامية، والحماية المعنوية منها والمادية.
إن ما وصلت له الدراما السعودية من عطاء درامي، رغم كل المعارك التي تخاض ضدها، من أكثر من جبهة داخلية، أخذ ينافس في مجال الدراما العربية، لهو معجزة بحد ذاته، صنعها المبدع السعودي من لا شيء، أو بالأحرى من ضد كل شيء. وأصبحت رغم كل ما يقال عنها من، دعاة النخبة المحليين، تهريج وتكرار وإفلاس؛ مطلبا لكثير من القنوات التلفزيونية العربية، والتي تتنافس في الحصول عليها. وفوق كل هذا وذاك، مطلبا جماهيريا لا يغفله إلا كل جاهل أو متجاهل.
كنت في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان، وفي الساعة الثامنة صباحاً، أنتظر في صالة انتظار مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون، بالرياض، دوري للدخول على عيادة العيون مع العشرات من المنتظرين؛ وإذا برجل يأتي ويجلس بجانبي وهو يحتضن طفلا بين ذراعيه، الطفل أخذ يتململ من الانتظار وألم عينيه، ويطلب من والده الخروج من المستشفى. وأخذ والد الطفل يطبطب على ظهر طفله ويمنيه بشراء أشياء مغرية له، من غير فائدة. ولكن في لحظة إلهام من والد الطفل، قال لطفله، بأنه سوف يشتري له تيسا، وقبل الطفل بذلك، ولكن بشرط لم أتمكن من فهمه بسبب لغة الطفل الخافتة والمتقطعة، فوافق والده على شرطه، حيث قال له: نعم سأشتري لك "تيس" مثل تيس السدحان. هنا فهمت أن الطفل ووالده يقصدان، تيس السدحان الذي كان بطل حلقة " شلهاط" إحدى حلقات طاش ما طاش.
إذاً فحلقات طاش ما طاش، هي حلقات منوعة، منها ما يخاطب عقلية الطفل ومنها ما يخاطب عقلية الشباب والشابات، ومنها ما يخاطب النخب؛ وعلى هذا الأساس، فليس بالمستغرب بأن يبادرك نخبوي، بقوله: إن طاش ما طاش، قد أفلس هذه السنة، حيث لم يعرض إلا أربع أو خمس حلقات عليها القيمة، وما عداها فتكرار وتهريج. هذا كلام صحيح، حيث بقية الحلقات والتي لم تعجب صاحبنا النخبوي، هي مخصصة لغيره من فئات المشاهدين، بمن فيهم الأطفال. وقد أمنت بأن تيس السدحان، يستحق من الإعجاب والإطراء، أكثر من أي مدع للنقد الدرامي، حيث أدخل البهجة والسرور، على طفل مريض، بالكاد يفتح عينيه، ومعه مئات الآلاف من الأطفال غيره، في شرق وغرب العالم العربي. إذاً أفليس من التهريج السفسطائي تسمية الحلقات التي تخاطب عقليات الأطفال والشباب بالتهريج؟