الشعر هو المنجز الفني المكتمل والوحيد في الثقافة العربية الصحراوية المتقشفة قبل انبثاق نور الإسلام، لذا فإن تأثيرات محدودة مسته فحافظ على شكله وشروطه وفنياته الجاهلية كاملة، فانتقل ككتلة واحدة من ثقافته الصحراوية الخالصة دون إعادة إنتاج أو تشذيب أو اشتراط. ثمة شروط نقدية جديدة خصوصا مع تثبيت الحالتين الأشهر لكعب بن زهير وحسان بن ثابت للوضع الذي كان قائما حينها، فيما انشغلت مرحلة صدر الإسلام في بناء الدولة الجديدة والتي تطلبت جهدا كبيرا انحسر على إثره حضور الشعر لصالح أشياء أخرى، وهذه بالمناسبة من الومضات النادرة في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية.

وفي التجارب القليلة الناجحة التي حضرت خلالها الشعرية والديني في تجارب قليلة في الثقافة العربية والإسلامية كان مأزق الشاعر دوما في تحوله لسهم مدبب في كنانة السلطة السياسية ترمي به خصومها ومناكفيها، هذا من جانب، فيما كان الصوفيون هم النموذج الأكثر جلاء لتقاطع الشعرية والدينية، وأنتج في ذلك قصائد مهمة، ولكن السؤال المهم هنا هل يمكن فعلا اعتبارهم كجزء من المشروعية الدينية؟، أم أن ذلك كان حالة فنية وإبداعية مجردة حملت تأثيرات دينية، وهنا لا أود استحضار سجال قديم بقدر ما هو توصيف حالة، وفي الشعر العامي أو الشعبي ملأ المتمردون والخارجون عن النسق العام المشهد وتصدروه بتهتكهم وإباحيتهم وألعابهم اللغوية أحيانا وعدم ثباتهم النفسي والسيكولوجي وتقلبهم بين مختلف المواقف والقناعات، فيما انزوى الشعراء ذوو النزعة الدينية دوما خلف قصائد محدودة وتجارب لا تذكر وحتى في مجال تخصصهم كانوا دوما أقل قيمة إبداعية وفنية، رغم وحدة الهدف وجلاء المبتغى، والمفارقة هنا أن الشعراء المتمردين اشتهرت قصائدهم (التوبية) بقدر شهرة أعمالهم الأخرى المتمردة والمنفلتة وهذا يستوجب أسئلة ملحة منها.. هل فعلا يحتاج الإبداع والشعر إلى حالة تفلت كاملة؟ لماذا يفشل الشاعر ذو التوجه الديني؟ لماذا لم تحضر تجارب ناجحة في القصيدة الدينية حتى في عز فترات مد الإسلام السياسي؟ لماذا كان الشعر استثناء من سطوة التأثير الديني؟ هل يغذي الشعر جانبنا الشيطاني؟ هل الشعر إجمالا حالة تمرد كاملة ضد كل الأنساق والأنماط؟ أسئلة كثيرة أظن أن نقاشها يتطلب وقتا وجهدا لازما، خصوصا أن ملمحا كهذا موجود وما زال يؤثر حتى اليوم في المشهد الشعري العام.