منذ أن وفد هذا الفن إلى المشهد الإبداعي العربي، عبر عدد من أساطين المسرح العربي في مصر أو لبنان أو سورية، لم تهوِ الكوميديا بوصفها فنا ذا رسالة بالقدر الذي تمر به فيما نتابعه اليوم، خاصة مع توافر الإنتاج العالي والغالي، وهذه حالة تناقض لا نعرف لها مبررا إلا ندرة المواهب، واستسهال الأمر، والسعي وراء "الحشو والتغليف فالبيع"، بغض النظر عن الجودة المبتغاة أو الخط الدرامي المرسوم، والإعداد المقنن لكل الأعمال التي تشغل أكثر من ثلاثة أرباع المحتوى المشاهد والمسموع، إذا ما خصصنا الربع الأخير لسرادقات النواح والعويل في المسلسلات الخليجية، التي جنحت كثيرا عن مفهوم "التراجيديا" المعتمدة على البؤس والفقر، فما بالك إذا وجدتَ تلك الأحمال البكائية تتعالى وتخرج إلينا من نوافذ القصور أو على المقاعد الوثيرة في السيارات الفارهة، مما يجعلني أتذكر في الجهة المقابلة أعمالا خالدة لنجيب الريحاني، وبديع خيري وعلي الكسّار وإسماعيل ياسين، وفؤاد المهندس، ممن اعتمدوا فلسفة الإضحاك الممزوج بالواقع، الذي يحمل أفكارا مبطنة تدخل فيها نية غير مصرح بها على "الإذلال الموصل إلى الإصلاح" كما يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون.

وبصورة عامة يمكن لنا القول ـ مطمئنين ـ إن الأعمال المحلية التي اكتظ بها الموسم الرمضاني الحالي والذي قبله، ما تزال بعيدة البعد كله عن تقديم ما يرتقي بالمشاهد على صعيد الوعي أو التماس مع قضاياه، فضلا عن الإمتاع الذي بات عملة نادرة تغشاها وحل الإسفاف وعدم المنهجية والاعتماد المباشر على الهمز واللمز والسخرية المقيتة من الأشكال والألوان والأصوات والأنماط السلوكية التي تشكل فسيفساء المجتمع، ولست بالطبع مطالبا بعودة زمن الكبار ـ وهيهات أن يعود ـ إنما أملنا أن نجد منهجية واضحة لتلكم الأعمال تحترم عقولنا، وتتوافق مع ما تقدمه الآلة المعلوماتية، وما يفيض به مجتمعنا من قضايا يصلح جلّها للتناول الماتع الموصل للرسالة، والقادر على قرع الأجراس، وإعادتنا إلى ذواتنا في سبيل قراءة متأنية لأوضاعنا، وتقويم لأفعالنا، مما يحيل الفنّ والكوميديا بخاصة إلى لبنات بناء لا معاول هدم وتدنٍّ.

القضية الأشد خطورة، تكمن في التلقي غير المباشر ـ وهو الأكثر تأثيرا ـ عند الناشئة الذي يعمل في لا وعيهم على ترسيخ مفاهيم تتجاوز المنظومة القيمية التي تلقوها في قاعات الدرس التربوي أو في بيوتهم؛ مما يحيلهم إلى كائنات مشوشة وغير قادرة على تحديد ما هو نافع وما هو مسفّ وهذا ـ لعمري ـ هدم وأي هدم.