إن لفَتت نظرَك ظاهرةُ موت الأقران والزملاء في مهنة واحدة، في أوقات متقاربة، فلابد أن تسمي هذا العام: "عام رحيل المفكرين العرب"! حيث فقدنا: المغربي/"محمد عابد الجابري"، واللبناني/ "محمد حسين فضل الله"، والمصري/ "نصر حامد أبو زيد"، والتونسي/ "محمد مزالي"، والكويتي/ "أحمد البغدادي"، والسعودي/ "غازي القصيبي"، وأخيراً الجزائري/ "محمد أركون"! وإن نسيت أحداً فأعر الموت ذاكرتك إلى نهاية العام مشكوراً!

وتزامن الوفيات هذا ليس إلا واحدةً من ألذع سخريات "الموت" بنا؛ إذ يضعنا فجأةً بين بليَّتين شرُّهما مضحك: الفراغ الكبير الذي يتركه رحيل هؤلاء الأقران دفعةً واحدة؛ فليس من كرم الزمن أن يجود بمثلهم سريعاً! ثم الامتحان الرهيب لمدى استيعابنا مشاريعهم ومواصلتها، ولا تقل: تطويرها!

أما في حضرة "محمد أركون" فالبلية أشر وأضحك، حين تتساءل: هل هو عربي؟ وليس المقصود أصله العرقي ـ الأمازيغي ـ فـ"كل من نطق العربية فهو عربي"، ولكن كيف تصنف "عربياً" من لم يكتب، ولم يدرِّس، ولم يحاضر بها طيلة حياته؟ ولم يفكِّر حتى بترجمة كتاباته إلى العربية، وتردد في ذلك طويلاً؛ خوفاً من رفض المتلقي العربي لها، ومواجهته بما واجه به "طه حسين" من تكفير، و"علمنة"، و"تلحيد"، وعمالة للغرب؛ حسب ما صرَّح به مترجمه/ "هاشم صالح"، في الأمسية التي أقامها "نادي الرياض الأدبي"، خلال معرض الكتاب في الربيع الماضي!

ولو أخذنا بظاهر الحيثيات التي تصب في أن اللغة هي: الفكر منطوقاً؛ فلا فرق بين "أركون"، وبين أستاذه الفرنسي "ماسينون" ـ مثلاً ـ وكلاهما يتحدث بالفرنسية، ويخاطب الناطقين بها، وإن كان "التراث الإسلامي" هو موضوع بحثهما! ولكنه لن يمر بك مرور الكرام أن تعرف: أن "أركون" اختار الفرنسية عن قصد واعٍ؛ لخدمة الفكر العربي! بمعنى: أن اللغة الفرنسية عنده وسيلةٌ لا غاية! بعد أن وصف مشروع "طه حسين" و"كمال أتاتورك" في كتابه "نقد العقل الإسلامي" بـ"المأساة"؛ لأنهما حاولا تطبيق المشروع الغربي في الساحة العربية الإسلامية بحذافيره، دون مراعاةٍ للبون الشاسع بين البيئتين الثقافيتين! وعليه قرر "أركون" أن يحمل وطنه بين أضلاعه، ويستصلحه فكرياً في تربةٍ مناسبة، هي "فرنسا ديكارت"، ثم يعيد تصديره إلى التربة العربية الجرداء! تماماً كما كنا نصدِّر البترول الخام، ثم نستورده صناعاتٍ عجيبة متعددة! و"أركون" بذلك ليس إلا امتداداً لـ"طه حسين" نفسه في كتاباته باللغة الفرنسية، التي يؤكد أستاذنا/ "حسين الواد" أنها تختلف شكلاً ومضموناً عن كتاباته بالعربية! يا "للأعمى الأبصر" ـ والتعبير للغذامي ـ من جديد!!!

ولعل "أركون" أراد بـ"التفرنس" ما أراده "ديكارت" وهو: أن ينشغل بالفكر الخالص، ويشغل الناس به، بدل أن ينشغلوا بـ"شخصه" و"يشخصنوا" كل إنتاجه؛ كما حدث لـ"طه حسين"! وسؤال "الموت" اليوم: هل نجح في تجنب ما وصفه بـ"المأساة"؟